الاثنين، 12 يناير 2015

مقدمة الورقة الإقتصادية




في ورقته في أبريل 2002 أشار الخاتم عدلان إلى أن برنامجنا الاقتصادي عند صياغته كاملا ومفصلا يجب أن يتصدى للقضايا الكلية وعلى رأسها:
·        قضايا الدين الخارجي وخدماته واحتمالات إعفائه وارتباطها بالعون الدولي والاستثمار الاجنبي.
·   النفط واقتصادياته وعلاقته بسياسات السلطة ككل وبالصراع السياسي الدائر حاليا خاصة في الجنوب، وتاثيراته على علاقات السلطة العالمية والاقليمية.
·        تكلفة الحرب ونفقات الجيش وقوات الدفاع الشعبي وقوات الأمن المختلفة، باعتبار أن هذا وجه أساسي للنهب ولإهدار موارد البلاد وتدمير بنيتها التحتية ومواردها المادية والبشرية.
·        القطاعات الأساسية للاقتصاد: الزراعة والصناعة والخدمات وما حدث فيها.

قضايا الانفاق الحكومي والحكم الفيدرالي وتشمل:
·        موقف الخدمات الأساسية، التعليم، الصحة، المواصلات، وغير ذلك من الخدمات مدروسة مع ومقارنة بالعبء الضريبي الذي يتحمله الشعب، وتحديد مسئولية الحكومة تجاه هذه الخدمات.
·        الفقر والجوع والمرض وتحديد مدى هذه الظواهر باعتبارها حصاد الناس الحقيقي من حكم الجبهة الاسلامية. علينا إيجاد المعادلات الرياضية والاحصائية التي يمكن استيعاب تلك الظواهر في إطارها، لإن التعبيرات الموجودة عن هذه الظواهر إنشائية وأدبية اساساً في الوقت الحاضر، وقد آن لنا ان ننتقل الى فهم كمى ورياضي لها، فعن هذا الطريق فقط يمكن استبانة فداحتها ومن ثم ترجمتها في البرنامج بلغة واضحة.
·        النساء والفقر، والدولة الدينية عموماً،  فمعاناة النساء لا توصف في ظل هذه الدولة، والتوصيف الاقتصادي هنا يختلط بصورة لا فكاك منها بالجوانب الاجتماعية والسياسية وبالمفاهيم الدينية.
·        تفاوت الأقاليم المختلفة من حيث تقسيم الثروة ومشاريع التنمية وكيفية ردم الهوة بينها عبر التنمية الإقليمية المتوازنة ووفق خطط محددة على المديات القصيرة والمتوسطة والطويلة.

إذا حددنا تكلفة الحرب فيجب أن نحدد أيضا تكلفة السلام وأن نقدم مساهمة حول:
·        كيفية استرداد الموارد والأموال المنهوبة.
·        القطاع المصرفي والتشوهات التي لحقت به من جراء ما يسمى بالاقتصاد الاسلامي.

نرمي بكل هذا التفصيل الذي لا ندعي أنه احصى كل  القضايا الجديرة بالدراسة حتى نصل إلى صياغة برنامجنا الاقتصادي ، إلى اخراج ذلك البرنامج من حيز الهلاميات التي ظلت تكتنفه، ووضع هيكل محدد قابل للدراسة وللإنجاز، وقابل للإضافة و للجهد الجماعي . و نقول من جديد أننا لسنا ملزمين باجراء بحوث حول كل هذه القضايا ، ولكننا يجب أن نستفيد من كل المعارف المتوفرة حاليا ً، في الوصول إلى ما نريد.

المنهج الأصوب في صياغة برنامج الحركة الاقتصادي، هو البداية باستيعاب وحصر ما أحدثته الجبهة خلال أكثر من عقد ونصف بالاقتصاد والإنسان في السودان. وهذه دراسة ليس في مستطاع الحركة وحدها أن تقوم بها. ولذلك فإننا يجب أن نُلم بكل ما كتب حول هذه القضايا وأن نشرك معنا المختصين من الوطنيين الشرفاء والانطلاق من ذلك لصياغة برنامجنا ليس فقط على مستوى المرتكزات الأساسية وإنما أيضاً على مستوى التفاصيل الدقيقة، لإنه بغير ذلك سنكون قد صغنا برنامجاً اكاديمياً فحسب، وليس برنامجاً نضالياً.

إن حجم الخراب والتشويه الذي ألحقته الجبهة القومية الاسلامية بالاقتصاد السوداني يجعل، ليس من معالجته، إنما من مجرد تناوله ومحاولة حصره أمراً يقترب من رابع المستحيلات. ولكن قبل التطرق إلى ذلك، لابد لنا من تسجيل ملاحظة هامة وهي إحجام القوى السياسية الكبيرة عن تحليل ممارسات السلطة والمباديء التي تهتدي بها في سياساتها الاقتصادية ونهبها الفظ والجلف والمكشوف لثروات البلاد على شحها. وكما ذكر الخاتم عدلان في ورقته المشار إليها "إذا استطعنا أن نقيم علاقة بين الظاهرة الطائفية والجبهة الاسلامية، من زاوية القداسة وعلاقاتها بالندرة، فإننا لا نجد أية صعوبة في فهم برنامج الجبهة الاسلامية الاقتصادي، بمقارنته ببرامج هذه الاحزاب والطوائف. إن إحجام تلك القوى يرجع إلى أنها تعرف تماما أن الفلسفة المحركة للسلطة هي فلسفتها هي نفسها، ولكنها فقط تنفذ بشطط شديد، ودون رياء او ملاطفات، لإن مفهوم القوة في مقابلة العدل قد وصل هنا الى نهاياته المنطقية، أو غير المنطقية، في واقع الامر. لقد تلفتت الجبهة وهى تحاول الفكاك من أسر التبعية لتلك الأحزاب، فتوصلت الى أن منعتها الاقتصادية هي السبب في هيمنتها السياسية. وقد شاهدت  زعماء إحدى الطائفتين يتمتعون بنصيب الأسد من ولاء وخيرات الرأسمالية التجارية، وزعماء الأخرى يتمتعون بنصيب الأسد من ولاء وخيرات الرأسمالية الزراعية، وأنهما معا تمتصان خيرات الأتباع الفقراء في كل القطاعات. وما دامت الجبهة قد قررت أن تخلف هذه القوى سياسياً، فقد قررت في نفس الوقت أن ترثها اقتصاديا. ومن هنا تنكيلها القاسي بطبقة التجار وبالرأسمالية الزراعية وبالأتباع الفقراء من كل الطبقات." وبالطبع فقد أججت احتياجات مشروعها الامبريالي في التمدد والسيطرة إقليمياً ودولياً بدءاً بإخضاع وإقصاء القوميات والثقافات الأخرى في البلاد، من ضراوة ذلك البرنامج، وهكذا نفهم ورقة عبدالرحيم حمدي الأخيرة والتي وضعت النقاط على الحروف فيما يتعلق ببرنامج الجبهة الاسلامية الاقتصادي.

قلنا أن جوهر برنامج الجبهة الاسلامية سياسيا هو الحرب والقمع وأن جوهره اقتصاديا هو النهب والذي يمارس بمختلف الأشكال ولكنه يتجلى بصورة رئيسية في:

·        تشويه مفهوم التنمية وتحويره إلى إحصاءات عن نمو الناتج المحلى.
·        اعتماد الإجراءات النقدية بدلا من الحلول الاقتصادية  الاجتماعية.
·        اجتذاب الاستثمارات سريعة العائد وتركيزها حيث توجد البنية التحتية.
·        إهمال مشاريع تطوير البنية التحتية وإهلاك الموجود منها بالاستخدام المنهك.
·        استغلال الموارد الطبيعية الموجودة بأسرع وأضخم مايمكن وفي حالتها الخام الأولية .
·        سيادة الممارسات والأنشطة الطفيلية غير المنتجة.
·        أسلمة القطاع المصرفي ونهبه واستخدامه لتدمير النشاط الاقتصادي.
·        رفع يد الدولة تماما عن الخدمات الاجتماعية خاصة الصحة والتعليم بل واعتبارها مصادر دخل ومجالا مفتوحا وجذابا للاستثمار الخاص.
·        فرض الضرائب الباهظة المباشرة وغير المباشرة.
·        خصخصة وبيع أصول الشعب وممتلكاته لرأسماليي الجبهة بأبخس الأثمان وتشريد عشرات الآلاف وفصلهم من العمل.
·        الإفقار المادي والإنساني.
·        التهريب والفساد المكشوف .
     
الأداء الاقتصادي:

بإراقة دماء وإزهاق أرواح وسجن أبرياء، وبشعارات وهتافات تصم الآذان، أشهرت الجبهة القومية الاسلامية برنامجها الاقتصادي لتعبئة الموارد الطبيعية والبشرية في اتجاه التغيير الشامل والتنمية الشاملة، والاكتفاء الذاتي تحريرا للسودان وشعبه من ربقة التبعية لدول الاستكبار العالمي وإنقاذا لهما من عهود التخلف والتدهور الاقتصادي ونهب الموارد والفساد الحزبي، في انطلاقة لتحويل البلاد إلى قوة اقتصادية عظمى، وسلة للغذاء العالمي، وتوفير الرخاء والرفاهية للناس. ولتحقيق تلك الأهداف وضعت السلطة ما دعته الاستراتيجية القومية الشاملة، والتي تقوم على سياسات الإصلاح الهيكلى المرسومة والمفروضة من قبل مركز الاستكبار العالمي الامبريالي ذاته، صندوق النقد الدولي، كالتحرير الاقتصادي والخصخصة وتعويم سعر العملة الوطنية وتخلي الدولة عن مهامها الاقتصادية والاجتماعية ورفع الدعم عن السلع والخدمات، مغلفة ذلك بأحابيل "الاقتصاد الاسلامي" من أسلمة للمصارف وجباية ومضاربات ومرابحات، و طبقت ذلك ونفذته بوحشية وقمع وإرهاب لم يسبق لهم مثيل لضمان تنفيذ تلك الاستراتيجية والسياسات في مواجهة أي رفض شعبي لها كما حدث في العهود السابقة.

مقارنة ببداية الثمانينات ارتفعت تكلفة المعيشة في العاصمة القومية إلى 10 أضعاف في    1989، أما في هجير الجبهة الاسلامية فقد ارتفعت إلى 100 ضعف في الفترة من 1989 إلى 1993 و إلى 500 ضعف في 1995 وإلى 1200 ضعف في 1996. وهكذا انخفضت القوة الشرائية للعملة الوطنية بصورة حادة إلى واحد من 1200 من قيمتها قبل عقد ونصف، وفي خلال نفس الفترة انخفض سعر الجنيه السوداني للدولار الأمريكي بأكثر من 675 مرة بالسعر الرسمي و 225 مرة بأسعار السوق. صاحب ذلك الانهيار عجوزات هائلة بين الانتاج والاستهلاك وبين الواردات والصادرات وبين الإيراد والإنفاق. 

سجل العجز في الميزان التجاري أرقاما قياسية نتيجة لزيادة أسعار الواردات من جانب وانحسار حصيلة الصادرات من الجانب الآخر. إن بنود واردات الدول النامية ليست مرنة في العادة لاشتمالها على السلع الصناعية ومدخلات الانتاج والمواد الخام الوسيطة الضرورية لتسيير عجلة الانتاج، فإذا اضفنا إلى ذلك الاستيراد الواسع للسلع الكمالية والتفاخرية، وهو ما ظل عبئه يتزايد باضطراد، فإن الصورة تصبح قاتمة تماماً. أما انخفاض حصيلة الصادرات فقد فاقمه فقدان البلاد الأسواق التقليدية لمنتجاتها، كالقطن مثلاً، بسبب التخبط والعشوائية في السياسة الزراعية. لقد انخفضت صادرات القطن كنسبة من قيمة جملة الصادرات من 47% في عام 1990 إلى 17.8% في عام 1997 وكذلك صادرات الصمغ العربي من 12% إلى 4.5% في نفس الفترة، بينما لم ترتفع نسب الصادرات الأخرى بصورة مؤثرة فيما عدا الماشية، ولم تدخل سلع جديدة تركيبة الصادر خلال تلك الفترة سوى السكر والذهب واللحوم وبنسب ضئيلة. وفي خلال سنة واحدة من 2002 إلى 2003 انخفضت قيمة الصادرات الزراعية من 214 مليون دولار إلى 151 مليون دولار وكذلك اللحوم الحية من 136 مليون إلى 74 مليون دولار، كما تراجعت صادرات السلع الصناعية من 55 مليون إلى 34 مليون دولار.

لقد قفزت إيرادات الدولة أكثر من مائة ضعف في الفترة بين عامي 1991 و1997 ، من بليون و383 مليون دينار إلى مائة وثمانية بلايين و 558 مليون دينار، نتيجة فرض وجباية الضرائب الباهظة المباشرة وغير المباشرة. ومع التعسف في جمع الإيرادات فقد ابتدعت الدولة ما يسمى ب"الربط"، وأطلقت أيدي العاملين في أجهزة الضرائب والجمارك والجبايات الأخرى ورشتهم بالحوافز بحيث أصبحت لهم مصلحة مباشرة في الانحياز لهذه السياسة وما يتبع ذلك من استشراء الفساد وتسريب أكبر قدر من الأموال إلى جيوبهم. لقد أدى ذلك إلى انهيار تام لمؤسسية هذه الأجهزة وخاصة الضرائب والتي يعتبر أحد أهم أغراضها تحقيق العدالة. هذا إذا استثنينا المبدأ الأساسي ذاته وهو أن الضرائب تجبى لقاء الخدمات، فلم الضرائب وقد رفعت الدولة يدها سلفاً عن الخدمات؟ لقد بلغت نسبة الإيرادات الضريبية إلى الإيرادات غير الضريبية 260% في عام 1998 ، وارتفعت إلى 280% في عام 1999 ، وحتى بعد دخول البترول ظلت النسبة مرتفعة جدا فقد كانت 82% و62% في عامي 2002 و2003 على التوالي، مع الارتفاع المستمر لنسبة الضرائب غير المباشرة إزاء الضرائب المباشرة والتي فاقت في بعض السنوات ال 80%، مما يعكس انحياز النظام الضريبي ضد المواطنين البسطاء والقطاعات محدودة الدخل لصالح العناصر الطفيلية ذات الثراء الفاحش. لكن وبالرغم من ذلك وبالرغم من هجر الدولة التام لدورها ومهامها الاجتماعية والخدمية وحجبها الدعم عن السلع والخدمات الضرورية، فقد ظلت نفقات الدولة تفوق إيراداتها حتى بلغ العجز 19 بليون و350 مليون دينار في عام 1997 ، نتيجة لتضخم منصرفات جهاز الدولة الموجهة بصورة رئيسية نحو تمويل الحرب الأهلية وتوسيع أجهزة الأمن وبذخ الصرف على متنفذي النظام وعملائه من أفراد وأجهزة وأحزاب داخلية وخارجية وأجهزة الحكم الاتحادي المترهلة ونشاطات الحزب الحاكم الذي وحد جيبه مع جيب الدولة.

ولتغطية ذلك العجز اعتمدت الدولة بصورة رئيسية ومستمرة على الاستدانة من النظام المصرفي،  والتي قفزت من 119 مليون دينار في عام 1991 إلى 7.5 بليون دينار في عام 1996، مع بعض التمويل الخارجي والذي ساهم في رفع الدين الخارجي إلى ما يفوق 30 بليون دولار أكثر من 50% منها يعود إلى خدمة الديون. أدى ذلك إلى ارتفاع الكتلة النقدية المعروضة والتي تسربت أساسا نحو العملة المتداولة لينفجر التضخم بمعدلات قياسية ثلاثية الأرقام فاقت 150% في 1996. ولاعتماده بصورة رئيسية على الورادات ولركوده المتواصل، فقد أدى ذلك الانفجار في معدلات التضخم والمدفوع من جهة أخرى بالتدهور الحاد في قيمة وسعر العملة الوطنية إلى تحطيم القدرة الانتاجية للاقتصاد الوطني وقزم تماما من أي طموحات للاستثمار أو النمو.

في القطاع الزراعي، وهو المساهم الرئيسي في الناتج المحلي الإجمالي بما يقارب النصف إلى ما قبل البترول والمساهم بأكثر من 85% من العمالة، كان الفشل الذريع في تحقيق توقعات وأهداف الاستراتيجية القومية يفقأ العين. لقد تراجع انتاج القطن تراجعا حادا نتيجة تقليص المساحات لصالح القمح حتى يأكل المواطنون مما يزرعون، ولكن وبعد أن فقد السودان أكثر من نصف بليون دولار كان من الممكن جنيها من تصدير القطن الذي لم يزرع، انحسر انتاج القمح إلى ما يقارب 180 ألف طن مقابل 2 مليون طن متوقعة في عام 1998 وارتفع استيراد القمح والدقيق إلى 183 مليون دولار في تلك السنة. ويتضاعف الجوع بتضاؤل انتاج الذرة الذي كان متوقعا له أن يبلغ 15 مليون طن إلى أقل من 3 مليون طن فقط ، وكذلك الحال بالنسبة للدخن والسمسم إذ توقف الانتاج عند 32% و16.5% من التوقعات على التوالي، لتصبح "الفجوات الغذائية" هي السمة العامة. وفي حين تضاعف حجم الصادرات من الضأن حوالي سبعة مرات فإن حجم القطيع تضاعف مرة واحدة فقط وهو مايعكس السياسة النهبية الاستنزافية للموارد دون الاهتمام بنموها ورعايتها وتغزيرها.

لقد انهارت آمال الخطة العشرية للقطاع الزراعي وكان نتاجها حصادا مراً على كافة الأصعدة بسبب السياسات قصيرة النظر والأولويات الخاطئة التي كبلت القطاع ونخرت بنيته وجعلته نشاطا كاسداً خاسراً بتزايد الأعباء الضريبية والجباية وارتفاع تكلفة الانتاج وانعدام المدخلات والإهمال المتعمد وتدهور البنى التحتية وضعف التمويل من جانب وصيغ التمويل الإجرامية من الجانب الآخر والتي ألحقت أضراراً إقتصادية واجتماعية مدمرة بعيدة الأثر بمناطق الانتاج وأعسرت المزارعين وطردتهم من الحقول وأسلمتهم السجون.  
وتندلع الآن من جديد معركة حول مشروع الجزيرة بإصدار السلطة لمشروع قانون الجزيرة في منتصف هذا العام والذي يهدف، تحت دعاوي الإصلاح ورفع الانتاجية، إلى خصخصة هذا المشروع بكامله ورفع يد القطاع العام عنه نهائيا، وهو ما يهدد بطرد ونزع حيازات فقراء المزارعين الذين يمثلون 95% من المزارعين بالمشروع، لصالح كبار رأسمالييي الزراعة. لقد تدهور المشروع بسبب التقصير والإهمال المتعمد وتمثل ذلك في انهيار البنى التحتية الأساسية من قنوات للري وتدهور للتربة وتذبذب الإنتاجية وتأرجح الأسعار وتقلبات التركيبة المحصولية وتخفيض المساحات وارتفاع التكلفة والضرائب الفادحة والصرف البذخي دون رقابة وخصخصة الخدمات لإلغاء دور المشروع التنموي والاجتماعي ثم تطبيق نظام الحساب الفردي، وهي أزمات احتدت وتفاقمت ودفعت بالمشروع إلى مشارف الانهيار التام بفعل سياسة السلطة وبرنامجها الاقتصادي.
في غياب أي استراتيجية للتنمية الصناعية، هل نتبع استراتيجية الانتاج الموجه للتصدير أم استراتيجية إحلال الواردات أم مزيج منهما؟ ظل القطاع الصناعي يعتمد بصورة أساسية ولايزال على الصناعات الغذائية والنسيج والجلود، والتي يغلب عليها جميعا طابع الاستثمار الصغير والأولي، نسبة لتضاؤل أنشطة إضافة القيمة، مما أضعف من مساهمته في الناتج المحلي الإجمالى. وإضافة لذلك الضعف البنيوي فقد أدى عدم توفر المواد الخام حتى المحلية منها مثل القطن والجلود الخام التي فتح باب تصديرها، والافتقار إلى المدخلات الصناعية وقطع الغيار المستوردة، بسبب توجيه العملة الصعبة لاحتياجات أخرى حسب أولويات الصرف الخاطئة، وانعدام التمويل وعدم الاحلال أوالتجديد وإخفاقات التيار الكهربائي وجوانب البنية التحتية الأخرى من جانب، وكذلك تصاعد الضرائب المتعددة ورسوم الانتاج والجمارك ومنافسة السلع المستوردة، من الجانب الآخر، إلى انهيار شبه كامل للقطاع وتوقف مئات المنشآت الصناعية عن العمل، بحيث تدهورت مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي من 17.5% عام 1990 /1991 إلى 14.9% فقط عام 1999 . هذا هو حال القطاع الذي كان عليه المعول في قيادة عملية التنمية بسبب ارتفاع القيمة المضافة ولقدرته على النمو بوتائر متسارعة قياساً بالقطاع الزراعي ولكن ما تم هو أن بعض أصحاب المصانع شرعوا في تحويلها إلى مخازن، في سابقة تضاف إلى سوابق اقتصاد الجبهة القومية الإسلامية، حيث يصبح التخزين نشاطاً أعظم فائدة وعائداً من التصنيع.

بفضل التوجهات والطبيعة الطفيلية التبديدية لاقتصاد النظام انحسرت مساهمات القطاعين الزراعي والصناعي(بل وضمرت جملة إيرادات الدولة من مؤسسات القطاع العام كلها إلى حوالي 2% و3% من إجمالي إيرادات الدولة في عام 2005 وتقديرات 2006)، لمصلحة التوسع في قطاعات التجارة والخدمات، وتركزت النشاطات على مجالات العقارات والأراضي والسمسرة وغيرها والتي توفر مناخا طيبا لغسل الأموال والتهريب وغير ذلك من العمليات المشبوهة. هذا الانحسار مضافاً إليه نسبة النمو السكاني العالية أسهم بصورة مباشرة في ارتفاع حاد لنسبة البطالة الواضحة (غير المقنعة) والتي تبلغ 18% وسط الذكور ومايقارب ضعف تلك النسبة وسط النساء. وذهبت التنمية أدراج الرياح حيث لم تتجاوز مجمل الاستثمارات 5% من الناتج االمحلى الإجمالي الذي تواضعت نسبة نموه إلى 3% بل وكانت سلبية في بعض السنوات إذا وضعنا في الحسبان نسبة نمو السكان البالغة 2.8%. لقد تحطمت الشعارات البراقة واندثرت الآمال الكذوب، وبدلا من تعبئة الموارد الوطنية تم تبديدها وإهدارها، وبدلا من تطوير وتوسيع الاقتصاد الوطني  تم إضعافه وتضييق قاعدته الانتاجية وتوحيله في أزمة ركود تضخمي عميقة. وكان أن تدهور نصيب الفرد، وهو هدف التنمية، من الناتج المحلى إلى 305 دولاراً، وتزايدت الفجوة بين الاغنياء القلة والغالبية الساحقة من الفقراء، واستفحلت ظاهرة الفقر التي لم يعد للنظام من خرقة يغطي بها عجزه إزاءها سوى التبشير بوعود البترول المخدرة.

باستثناء تخصيص تحويلات لحكومة الجنوب والارتفاع النسبي لتقديرات المنح والقروض الأجنبية، والتي لم يظهر فيها رصد لمساهمات مانحي أوسلو، فإن مشروع ميزانية 2006 يشهد بأن اتفاقية السلام الشامل لازالت سراباً فيما يتعلق بانعكاسها على حياة المواطن، كما يشهد بأن توجهات السلطة وأولوياتها مازالت كما كانت. مشروع الميزانية يقدر زيادة في إلإيرادات الضريبية في سنة 2006 بحوالي 44% مقارنة بسنة 2005. وبالرغم من أن المسئولية عن جميع الخدمات الاجتماعية والأساسية قد تم تحويلها للولايات، فإن مشروع الميزانية يرصد 60% من إجمالى منصرفات الدولة للحكومة المركزية مقابل 16% فقط من إجمالي المنصرفات لجميع الولايات الشمالية. وحسب مشروع الميزانية المذكور مازال 45% من منصرفات الدولة يذهب إلى المرتبات والأجور والتي تلتهم الأجهزة السيادية وجهاز الأمن الوطني والدفاع والأمن القدر الأعظم منها. فبينما يبلغ المخصص في ذلك البند للأجهزة السيادية 31 مليار دينار وللدفاع والأمن 260 مليار دينار ولجهاز الأمن الوطني 38 مليار دينار، لايزيد المرصود للتربية والتعليم عن مليار دينار فقط . وفي حين يرصد مشروع الميزانية 6 مليار دينار للوفود والمؤتمرات و 5.5 مليار دينار للضيافة الرسمية، فإن دعم الأدوية المنقذة للحياة لا يحظى بأكثر من 4.9 مليار دينار.         
     
الفقر:
مستوى الدخل يعتبر أحد المؤشرات الهامة لقياس الفقر وقد حددت أهداف التنمية الألفية (الأمم المتحدة) خط الفقر المدقع بأنه الدخل الذي لايتجاوز دولاراً واحدا في اليوم.  وحيث أن متوسط دخل الفرد في السودان يتراوح حول 310 دولاراً في السنة حسب الاحصاءات المختلفة، فإن السودان يصنف ضمن الدول ذات الدخل الضعيف. وتبعاً للتوزيع غير العادل للثروة يستحوز أقل من 10% من المواطنين على 90% من الثروة، بينما يتقاسم أكثر من 90% من المواطنين أقل من 10% من الثروة، وهذه الغالبية الساحقة من السودانيين "تعيش" دون خط الفقر.  

ولكن ذلك التعريف المالي للفقر رغم أهميته لايكفي لتحديد الفقر بصورة شاملة، فهناك معايير أخرى تتعلق بنوعية الحياة والحرمان من القدرات والفرص، ويشمل ذلك قصر العمر وغلبة الأمية ونقص الخدمات الإجتماعية كالتعليم والصحة وشح المياه النظيفة وتدهور البيئة وانعدام الكهرباء وغياب أو ضعف شبكات الأمان والتهميش (أي العجز عن الوصول لرأس المال المادي والبشري والتحكم فيه)، تشكل في مجموعها صورة بانورامية لظاهرة الفقر وتجعل منه دائرة شيطانية.

بمتوسط عمر متوقع عند الولادة لا يتعدى 55 سنة، وهو من أدنى المتوسطات عالمياً، وبنسبة وفيات ولادة تبلغ 509 حالة لكل 100000 وهي من أعلى النسب عالمياً، وكذلك نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة، وبمتوسط سعرات حرارية للفرد لايزيد عن 1840 في اليوم مقارنة بمتوسط 2500 سعر حراري لدى الدول ذات معدل التنمية الأدنى، وبنسبة أمية تقارب ال60% وبالتدهور الكارثي في البيئة يجسد السودان ظاهرة الفقر تجسيدا حيا، كما يدفعها إلى النهايات المطلقة لانعدام العدالة بالتمييز ضد النازحين وضد الريف وضد المرأة. لذا كان منطقياً أن موقع السودان في قائمة معدلات التنمية الانسانية خلال السنوات العشر الماضية لم يتحسن وظل متأرجحا بين المركز ال 138 وال 158 .

إن الأسباب الجذرية للفقر في السودان نابعة أساساً من الخلل الهيكلي والتشوهات الكامنة في بنية الاقتصاد السوداني المنحاز أصلا بواقع الندرة إلى تركيز الثروة في يد القلة الأغنياء وفي الحضر بعيدا عن الريف وعلى التحيزات الإثنية والعرقية والنوعية والثقافية،   ولكن انتشار الظاهرة واستفحالها يرتبط بأسباب أكثر تعقيداً وتشابكاً من ذلك.

يمكننا أن نعود أولاً إلى سياسات الإصلاح الهيكلي في توصيات صندوق النقد الدولي في منتصف السبعينات وما تبعها من تخفيض للعملة ورفع الدعم عن السلع ثم ما نجم عنها من تضحم حاد استشرى بعد انقلاب الجبهة القومية الاسلامية، والذي طبق تلك السياسات بشراسة غير مسبوقة، ليبلغ معدلات فلكية في منتصف التسعينات. وكما كان التضخم الحاد محددا رئيسياً للأداء الاقتصادي فقد كان كذلك بالنسبة لمستوى المعيشة في السودان، فقد حطمت المعدلات المنفلتة للتضخم مستوى المعيشة لأصحاب المرتبات والدخول الثابتة، ورفعت من تكلفة الحد الأدنى لمستوى المعيشة بمعدلات سريعة وحادة، كما أعادت توزيع العوائد والثروة لمصلحة الأغنياء والمسيطرين على حساب الفقراء والمهمشين لتكرس ديمومة تصاعدية للفقر.

كانت الحرب الأهلية سبباً مباشراً في تفشي الظاهرة بتبديدها للموارد، حيث ارتفعت نفقات الحرب في الجنوب، باستثناء الصرف على الأمن، إلى ما يقارب المليوني دولار يوميا، وبإهدارها الحياة وتدمير البنى التحتية من ناحية وبكارثة النزوح والتهجير القسري من الناحية الأخرى. يمثل النزوح كارثة مزدوجة الضرر فمن جانب ينجم عنه فقدان أولئك المواطنين لمأواهم وممتلكاتهم وأعمالهم وسبل كسب عيشهم فقط، ومن الجانب الآخر يؤدي إلى طردهم إلى بيئات قاسية يفتقرون إلى الوسائل والمهارات اللازمة للحياة والعيش فيها كما تفتقر هي إلى أدنى شروط الحياة الإنسانية البسيطة.   

ضاعف رفع الدعم عن الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والخدمات الأساسية من المياه والكهرباء وانعدام فرص العمل ونتشار البطالة من وقع التدهور في الدخول. إن إدقاع القدرات الإنسانية الناجم من الجهل والأمية، ومايتبعهما من انعدام الوعي البيئي، والمرض والبطالة وما يتضمنه من تضعضع رأس المال البشري، يحد من فرص الناس على الاستثمار الأفضل لأمكاناتهم الكامنة كما يحد من قدرة البلاد على الاستخدام الأمثل للموارد الانسانية والمادية، مما يؤدي إلى استدامة واضطراد الفقر.أما في الريف فقد فاقم من الكارثة الضعف البنيوى في هيكل الاقتصاد الريفي ثم سياسة لامركزية المسئولية عن الخدمات وتحويلها إلى الولايات والمحليات ذات الموارد المعدومة أصلا ودون دعم إتحادي، وكذلك السياسات الزراعية المنحازة للأثرياء وأساليب التمويل الزراعي الساحقة.       

في مواجهة الكوارث المصنوعة والطبيعية المتواترة انفضح هزال وعدم فعالية أنظمة وآليات المعالجة والاحتواء. لقد فشلت صناديق التكافل والزكاة الحكومية في توفير الدعم  الضروري للمحتاجين وتحولت هي نفسها إلى أجهزة للصرف البذخي والفساد. كما أن محاربة السلطة لأشكال المشاركة الشعبية الحرة ولمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الطوعية الوطنية والعالمية، إضافة إلى تناقص تحويلات المغتربين، أضعف من شبكة الامان وحجم من فعاليتها.

وفي مواجهة وحشية الفقر وغياب شبكة الأمان يحاول الناس التكيف مع أوضاعهم بأساليب عديدة جميعها تحد من القدرة الانسانية في نهاية الأمر، وتشمل تشغيل الاسرة بكافة أفرادها ويشمل ذلك الأطفال حيث بلغت نسبة الأطفال ما دون الرابعة عشر سنة الذين يعملون 18%، وتقليل الاستهلاك بما في ذلك عدد ونوعية الوجبات والعمل لساعات إضافية وتعدد المهن والتسول والتشرد.  

وكما تعددت أسباب استفحال الفقر، فإن وسائل مكافحته وإزالته أيضا متعددة ويأخذ بعضها برقاب بعض، غير أنها لا يمكن أن تنطلق أوتنجح ما لم تستند إلى إرادة سياسية منحازة للفقراء ابتداءأ،ً وإلى إصلاح مؤسسي يستهدف زيادة نصيب ووجود الفقراء في السلطة عن طريق إعادة هيكلتها بما يمكن المواطنين الفقراء والمهمشين من المشاركة في صنع القرار المتصل بحياتهم على أدنى المستويات.

·        إن التصدي العلمي والفعال لكارثة الفقر لايمكن أن يشرع فيه دون بيانات وإحصاءات ومعلومات كاملة وشاملة ودقيقة يفتقر السودان إليها تماما. إن توفير قاعدة المعلومات والبيانات هذه يجب أن يأخذ أولوية قصوى وهو التعبير الأول عن الجدية في معالجة الكارثة.
·        لابد من زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم ودعمهما إتحادياً في الريف، والتركيز على خدمات ومؤسسات الرعاية الصحية الأولية والصحة العامة وصحة الأطفال والأمهات وصحة ونظافة البيئة وتوفير المياه النقية، وعلى محو الأمية والتعليم الأساسي والفني والعناية بالمتسربين واتاحة فرص تنمية المهارات لهم.
·        انتهاج سياسة وخطط تنمية منحازة للفقراء حيث أن النمو الاقتصادي في سوق بغير ضوابط لن يجني ثماره غير الأغنياء، وأن تتجه التنمية لمحاربة العطالة ولتكثيف فرص العمالة مترافقة مع توفير التدريب والتأهيل للفقراء.
·        تحسين البنى الأساسية في الريف وتطوير المشاريع الإنتاجية الموفرة لفرص العمالة لتحفيز الناس على البقاء وتشجيع النازحين للعودة.
·        تشجيع المشروعات الصغيرة وخلق مؤسسات التمويل الصغير، ولحماية المشروعات الصغيرة من الفشل لابد من توفير الدعم المؤسسي الفني والقانوني والإداري والتسويقي لها.
·        تأسيس هيكلية عادلة للأجور مرتبطة بتحسين وترقية الانتاجية وتقليل التفاوت في توزيع الدخول .
·        رفع القيود عن المشاركة الشعبية والمبادرة الحرة وعن منظمات المجتمع المدني والمنظمات الطوعية.

النزوح:
لقد أدت السياسات المنحازة للمناطق الحضرية وكذلك انهيار الاقتصاد الريفي وتدهور قدرات المصادر البشرية وضعف الخدمات الاجتماعية إلى نزوح الناس إلى المناطق الحضرية الأفضل نسبياً. وقد ضاعفت الحروب الأهلية من هذه المشكلة وأججها أيضا استخدام المليشيا المدعومة حكومياً بكثافة لحماية حقول البترول بشن هجمات وحشية ضد السكان المحليين دافعة إياهم للنزوح في موجات هائلة إضافة إلى مقتل الأبرياء والعزل، وتدمير الممتلكات ونهب الأبقار والمحاصيل .

وبحوالى أربعة ملايين نازح أحرز السودان الرقم القياسي العالمي في عدد النازحين. ويستقر هؤلاء بصورة أساسية في أو حول المدن الرئيسية خاصة العاصمة القومية والتي ارتفع عدد سكانها إلى ما يقارب ال 5 ملايين نسمة. إن إعادة توطين هؤلاء النازحين في مناطق مؤهلة للعيش تشكل معضلة معقدة نتيجة لتنوع واختلاف أسباب النزوح، الموطن الأصلي، فترة النزوح، الحالة الاقتصادية الاجتماعية، والحالة الأمنية في الموطن الأصلي . يعيش معظم هؤلاء المواطنين في أحزمة حول المدن في ظروف لاإنسانية بالغة القسوة ابتداءاً بالمساكن المكتظة، والتي تفتقد ابسط وسائل الحماية من الطبيعة والمناخ وأدنى مستويات النظافة والصحة العامة وانعدام الخدمات من كهرباء ومياه الشرب والرعاية الصحية والتعليم. هذا الوضع المتردي بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة يدفع بالنازحين إلى المهن الهامشية كما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الجريمة، ويفاقم من ذلك الشقاء أن معظم الأسر تعيلها النساء والمضطهدات أصلا ليس فقط بسبب التمييز التاريخي وإنما أيضا بقوانين الدولة الأصولية الممعنة في اضطهاد المرأة وأبلستها. نتيجة لذلك هناك الآن أكثر من 1000 سجينة في سجن النساء بأمدرمان، الغالبية العظمى منهن بسبب بيع الخمور البلدية والمخدرات أو التجارة الصغيرة المحظورة بحكم المادة 20 من قانون النظام العام، وأكثر من 80% من هؤلاء النسوة هن من النازحات من الجنوب. يضاف إلى ذلك وجود حوالي 150 إلى 300 طفل في السجن 95% منهم غير محصن ضد الأمراض وأكثر من 77% منهم يعانون من سوء التغذية. ونتيجة لهذا الوضع المأساوي يرتفع معدل الوفيات بين الأمهات إلى 65 حالة لكل ألف وبين الأطفال إلى 125 لكل ألف حالة ولادة، بينما تتصاعد حالات التشرد وأطفال الشوارع .

ويطرح النزوح بسبب الحرب أسئلة أخلاقية عميقة على التخطيط التنموي الزراعي للسلطة يتمثل في الاستغلال الشيطاني لكارثة ومعاناة النازحين. ففي عام 1996 لاحظت دراسة لبرنامج عملية شريان الحياة (لايفلاين سودان ) "صلة تثير القلق بين سياسات الحكومة في التنمية الاقتصادية في المجال الزراعي (أي تدعيم مشاريع الزراعة الآلية الضخمة) وبين سياستها تجاه نازحي الحرب." ففي جنوب كردفان مثلا أقيم العديد مما يسمى بقرى السلام للمواطنين النازحين بسبب الحرب في جبال النوبة، بقرب المشاريع الزراعية التي تحتاج العمالة التي يوفرها النازحون بأرخص الأجور. وهكذا تتفتق عبقرية الجبهة الاسلامية عن نموذج في "التنمية القائمة على النزوح". أما أولئك الذين يفلتون من استغلال قوة عملهم فلن ينجوا من استغلال أشنع لأرواحهم حيث تعمد السلطة إلى مطاردة الشباب والأطفال منهم واحتجازهم ثم تجنيدهم وإرسالهم إلى مناطق العمليات كمجاهدين رخيصي الروح .

إن التجربة التاريخية, والعالمية الواسعة، توضح أن هؤلاء النازحين لا يرجعون الى "موطنهم الاصلي" كما يتصور بعض السياسيين أو بعض الخائفين على فوائضهم من الثروة، أو بعض المتشبثين " بنقاء" المدينة السودانية الشمالية، وطابعها العربي أو الاسلامي من "الأحزمة السوداء". إن هؤلاء في غالبيتهم الساحقة لن يعودوا. فقد انتظروا الحداثة عقوداً طويلة من الزمان ولكن الحداثة لم تشرف ديارهم، فجاءوا بأنفسهم الى مواقع الحداثة. أليسوا هم الأخف!! وانتظروا التقسيم العادل للثروة والسلطة، فلم يطرق ذلك أبوابهم، فجاءوا إلى حيث يمكن أن يجدوا نصيباً مهما ضؤل من هذه الثروة والسلطة، أو على الأقل ليذكروا الظلمة والأقوياء بوجودهم على قيد الحياة. ولن يرجعهم أحد، ولن يمنعهم أحد من العودة إلى المدن بعد أن عرفوا طرقها حتى ولو تضافرت عليهم "الكشات" وقام عليها عتاة شداد من الأمن والشرطة والجيش. إنهم لن يعودوا إلى مواطنهم الأصلية مالم يذهب إليهم السلام والتنمية والخدمات والعمل ومالم يختفي التمييز والتهميش، وإلى حين ذلك فعلى السياسي المؤمن بالعدالة الاجتماعية وبالتعددية العرقية والدينية والثقافية أن يرسم خططه ويصوغ برامجه على أساس أن هذه الملايين جاءت لتبقى، وأن لها حقا في التعليم وفي العلاج وفي السكن وفي العمل وفي التملك. وإن هذا السياسي سيبدأ بداية صحيحة اذا نادى بالاعتراف بوجود هؤلاء ودعى إلى تمليكهم جميعاً قطع الأرض التي يسكنون عليها عشوائياً حاليا،, وتخطيط هذه المدن الجديدة وإدخال الخدمات الاساسية إليها، وإذا سعى إلى تنظيم هذه الجماهير نفسها لتدافع عن البرنامج الذي يطرحه أمامها وأن يشركها في صياغة هذا البرنامج.

الصحة:
وفقا لتقرير التنمية الانسانية العربية (2004) فإن العمر المتوقع عند الولادة في السودان هو 55 سنة وذلك يضع السودان في المركز 19 بين 22 دولة عربية تليه فقط الصومال وموريتانيا وجيبوتي، كما إن نسبة الرضع الذين يعانون نقص الوزن، وفقا لنفس التقرير، تبلغ 31%  واضعة السودان في المركز 21 تليه اليمن فقط . لقد تدهورت الخدمات الصحية ونوعية الرعاية الصحية تدهوراً فظيعاً منذ بداية التسعينات، كنتيجة مباشرة لتدهور الانفاق على الصحة والذي تضاءلت نسبتة من الناتج القومي الاجمالي من 0.5 % في عام 1986/1987 إلى 0.1 % في عام 1993/1994 . إضافة إلى ذلك فإن سياسة "استعادة التكلفة" المطبقة بفظاظة أقصت الطبقات الفقيرة من الاستفادة من تلك الخدمات على قلتها وسؤها. وتوضح إحصاءات وزارة الصحة الاتحادية تراجعاً مضطرداً في الخدمات الصحية مقاساً بعدد المستشفيات وسرائر المستشفيات ووحدات الرعاية الصحية الأولية والمراكز الصحية لكل 100000 مواطن. كما تظل المرتبات الضعيفة وانعدام التسهيلات حافزاً لهجرة مايقارب 90% من حوالي 800 من خريجي كليات الطب الجدد سنوياً.

داخل حيز التدهور العام هناك تمايز واضح بين المناطق الريفية والحضرية فقد ركزت السياسات الحكومية المتعاقبة على التطوير النسبي للخدمات الصحية في المدن والمناطق الحضرية، كما أن سياسة "استعادة التكلفة" التي ابتدعتها الانقاذ قد قلصت من قدرة مواطني الريف الضعيفة أصلاً على الاستفادة من الخدمات. ويتضح هذا التمايز في تركيز الخدمات بصورة أساسية في العاصمة القومية مقارنة بكل الولايات الأخرى، ولكن حتى بين تلك الولايات نجد أن معدلات عدد الأطباء إلى السكان تتراوح من طبيب لكل 5000 مواطن في الجزيرة إلى طبيب لكل 700000 مواطن في غرب دارفور، وبينما تحظي الولايات الشمالية بنسبة سرير مستشفى لكل 400 مواطن فهناك سرير واحد لكل 7000 مواطن في غرب دارفور .

ظلت الملاريا تفتك بالشعب السوداني، فقومياً هناك أكثر من 7 مليون إصابة منها حوالي 35000 حالة وفاة سنويا مع تزايد صعوبة مقاومة المرض. ويتصدر السودان القائمة الدولية في حالات الإصابة بالسل وسوء التغذية وفقر الدم الحاد والدودة الغينية والتي كان نصيب السودان منها في نهاية عام 2000 حوالي 73% من إجمالي حالات الإصابة عالمياً بما يقارب 55000 حالة إصابة مبلغ عنها. وتنتشر الدودة الغينية في كل الولايات الجنوبية وعشر من الولايات الشمالية، وحوالي 65% من الحالات في الشمال بين النازحين. وتثير نسبة الاصابة بالإيدز القلق، فهي حاليا تتجاوز ال 2% واضعين في الحسبان ضعف المعلومات، وعدم تبليغ الحالات وعدم تغطية مناطق واسعة بالوسائل اللازمة للكشف، خاصة في الجنوب المجاور لدول بلغت الأزمة فيها حد الكارثة كيوغندا والكنغو وكينيا .

تمثل الملاريا، بنسبة انتشار تبلغ 23% في الشمال وضعفها في الجنوب، والنزلات المعوية والاسهالات، بنسبة انتشار تبلغ 38%، والتهابات الجهاز التنفسي الحادة، الأسباب الرئيسية في معدلات وفيات وأمراض الأطفال المرتفعة ويزيد من حدتها فقدان المياه النقية والنظافة. كما إن نسبة تطعيم الأطفال ضعيفة جدا إذ فقط 25% من الأطفال محصنون ضد أمراض الطفولة الخمسة الرئيسية. أما نسبة وفيات الولادة فمازالت واحدة من أعلاها عالميا وتبلغ 509 حالة لكل 100000 ولادة نتيجة مضاعفات الوضوع وضعف المعرفة والصحة الإنجابية .

لقد أدى تدهور الخدمات الصحية الحكومية إلى تحول العلاج والرعاية الصحية إلى تجارة رابحة واستثمار ضخم وسريع العائد حيث تقدم هذه الخدمات للقلة الميسورة بأسعار فلكية في العيادات والمستشفيات الخاصة دون رقابة أو قيود حكومية على الأسعار. كما أدى هزال وعجز شبكات الأمان من صندوق الزكاة وغيره وبيروقراطيتها وفساد بعضها إلى حرمان الطبقات الفقيرة من الحصول على الخدمات والعلاج. بالطبع فإن انهيار الخدمات الصحية وضعف الرعاية وتزايد وانتشار الأوبئة والأمراض يؤدي إلى إفقار مزدوج فمن ناحية يشقى الناس في سبيل الحصول على العلاج والأدوية بأسعار تفوق ماتتيحه مداخيلهم المتواضعة، ومن ناحية أخرى فالمرض والعجز يؤدى إلى فقدانهم لوظائفهم ومصادر دخلهم المتواضعة ذاتها . 

التعليم:
حالة التعليم الأساسي قاتمة جداً، إذ وفقاً لتقرير التنمية الانسانية العربية (2004) فإن نسبة الأمية (عدم معرفة القراءة والكتابة) لدى البالغين تبلغ 40% ويأتي السودان في المركز 18 بين 22 دولة عربية في نسبة الأمية. وبينما نحن نعد هذا التقرير ارتفعت هذه النسبة في تصريح لمسئول حكومي إلى 57% وتصل بين النساء إلى 73% بعد الاحصاءات التي توفرت بعد توقف الحرب في الجنوب. وكذلك فإن نسبة القيد في التعليم الابتدائي/ثانوي/عالي للسودان ككل لاتتجاوز 36% ليحتل السودان المركز قبل الأخير في تلك القائمة، مع تصاعد نسبة الهدر التربوي. يضاف إلى ذلك أن نسبة التحصيل الدراسي في المدارس الابتدائية والثانوية العامة والعليا ضعيفة جدا نسبة لضعف مستوى المدرسين وقلة المواد والوسائل التعليمية، حيث تقدر اليونسكو الفجوة في المواد الدراسية والمعلمين والاحتياجات التعليمية ب 52%، وتتسع هذه الفجوة في المراحل التعليمية الدنيا حيث أن الميزانيات الحكومية تعطي الأفضلية للتعليم العالى والثانوي، وفي الريف حيث أنها تركز الإنفاق على قلته في المناطق الحضرية.

متوسط الانفاق على التعليم كنسبة من الدخل القومي لايتعدى 0.3% في السودان مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 5.2% ومتوسط 6% لدى الدول الأفريقية و5.5% لدى الدول العربية و2.8% لدى الدول الأقل نموا (تقرير التنمية البشرية 1998 –برنامج الأمم المتحدة الإنمائي). لقد انخفض الانفاق على التعليم كنسبة من الميزانية العامة من حوالي 15% في عام 1978 إلى أدنى من 2% في سنة 1996 علماً بأن عدد الأطفال في سن التعليم الأساسي قد بلغ أكثر من 6 مليون طفل، كما انخفضت معدلات الاستيعاب في التعليم الأساسى من 55% إلى 49% للبنات ومن 63% إلى 56.5 للأولاد. ويضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة الهدر التربوي إلى حوالي 25% في بعض الولايات نتيجة لارتفاع التكلفة، كما يرتفع الهدر بين البنات مقارنة بالأولاد نتيجة لمنع التعليم المختلط في الريف حيث لاتسمح الامكانيات الفقيرة بفتح مدارس منفصلة .

لقد تخلت الدولة تدريجيا عن مجانية التعليم الأساسي وإلزاميته منذ مؤتمر التعليم الأساسي في 1990 والذي وضع سياستها القائمة على تحميل الأباء والأسر أعباء العملية التعليمية. وطبق ذلك بفرض الرسوم المحلية والضرائب وغيرها، الأمر الذي أدى مع ارتفاع تكلفة الكتب والزي المدرسي المفروض، إلى إخراج الأسر الفقيرة أبناءها وبناتها من المدارس ليصبح التعليم شيئاً فشيئاً حكراً على الميسورين. وبمثلما تخلت الدولة عن التلاميذ فقد تخلت عن المعلمين الذين هجر معظم المؤهلين منهم المهنة كلياً أوجزئياً إلى السوق الصغير أو إلى مهن أخرى أو إلى دول الاغتراب، تاركينها إلى مدرسين بلا تدريب أوخبرة كافية .   

ترافق مع ارتفاع تكلفة التعليم، انخفاض ملموس في قيمته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ بفضل القيم والممارسات والسياسات التي نشرتها وانتهجتها الانقاذ لم تعد الوظيفة سواءً في القطاع العام أوالخاص مغرية للكد في سبيلها، فالمرتبات لاتكفي تكلفة المواصلات إلى موقع العمل والربح السريع والسهل عن طريق السوق الطفيلي أكثر إغراءً. المال والثراء بغض النظر عن وسيلة اكتسابهما أصبحا معياراً للقيمة الاجتماعية وللترقي في سلم السلطة بمفهومها الواسع. ولم يعد التحصيل العلمي وسيلة لاكتساب المعرفة وإنما الدجل والشعوذة والخرافة، لإن الجهل كمعادل للمعرفة هو هدف الإنقاذ ووسيلتها في السيطرة على وصياغة المواطن السوداني .    

إن الفجوة الهائلة في التعليم الأساسي لها مآلات مدمرة لمستقبل السودان. إن نتيجتها المحتومة هي حرمان البلاد من القدرات الذهنية والمهارات التي يتمتع بها ملايين الأطفال وإهدارها بينما نحن نرى الول الأخرى وحتى أكثرها تقدماً تتسابق في جذب ورعاية مثل هذه العقول حتى من خارج بلدانها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أكثر من 70% من المواطنين هم في الفئة العمرية الأقل من 17 سنة، فإن ذلك يعني أن الجيل الحالي والجيل القادم من شباب السودان لن يكونا مؤهلين للمشاركة في النشاط الاقتصادي والسياسي للبلاد، وهو مؤشر خطير لمستقبل التنمية والتقدم في السودان .

رغم الحديث المتصل عن ربط التعليم بالتنمية وحاجات سوق العمل فإن نسبة مؤسسات التعليم والتدريب المهني والفني إلى التعليم الأكاديمي لم تتجاوز  4% وقد ظلت على تلك الحال منذ عقود. ويزدوج تضعضع مستوى التعليم المهني والفني مع الحالة الرثة والعتيقة لمؤسساته، والتي لم تطالها يد التجديد أوالصيانة لامبنى ولا منهجاً ولاعقلية ولاجودة لأجيال. وفي حين يتم التوسع في جامعات وكليات القرآن الكريم قومياً وحتى في الجنوب ويتكدس خريجو العلوم الشرعية والفقه بالآلاف، تفتقد المؤسسات الصناعية للكوادر الفنية خاصة في المستويات الوسيطة ويجري استجلاب العمالة الخارجية بكثافة من الدول الآسيوية لمقابلة احتياجات البترول.

تحاول السلطة التستر على كارثة التعليم في المستوى الأساسي بما أسمته بثورة التعليم العالي، حيث توسعت في افتتاح جامعات جديدة ولكن حتى هذه الثورة افتضح زيفها تماما في التقرير الذي أعدته لجنة كونتها السلطة ذاتها، والذي كشف عن أن معظم تلك الجامعات تفتقر إلى أدنى مقومات التعليم الجامعي حيث:
·        العديد منها يشغل مبان دون المستوى المطلوب بالمدارس المجففة أو العقارات المؤجرة وبعضها تتفرق كلياتها على عدة مدن متباعدة.
·        توقف ميزانيات التنمية مما أوقف معظم الإنشاءات الجديدة وتضاؤل الميزانية الجارية عن الوفاء بالاحتياجات حيث لاتزيد عن 20% من المطلوب.
·        تجهيزات المعامل المتخصصة ليست بائسة فحسب وإنما لاتوجد البتة في العديد من الجامعات.
·        المكتبات، إن وجدت، تفتقر للمراجع وكتب المناهج والدوريات والعناصر البشرية المؤهلة.
·        الفقر التام في العناصر البشرية المؤهلة سواء بين أعضاء هيئات التدريس أو التقنيين حيث أكثر من 75% من أعضاء هيئات التدريس من حملة الماجستير ويعملون ليس فقط كمحاضرين وإنما يقود بعضهم الكليات كرؤساء أقسام وعمداء والإشراف على الدراسات العليا، كما يسود الاعتماد على الأساتذة المتعاونين ومعظمهم من خارج الولاية .
·        الافتقار للقوانين والهياكل الإدارية والتقنية والأكاديمية وغياب التدريب والبحوث والمؤتمرات وضعف مرتبات الأساتذة.
·        الألقاب والمراتب العلمية والترقيات تمنح دون تقيد بالضوابط الأكاديمية المعروفة، كما أن الدرجات العلمية فقدت قيمتها تماما.      
 مما أملى على اللجنة في النهاية التوصية بعدم إنشاء اي جامعات أو كليات جديدة حكومية أو أهلية لمدة 3 إلى 5 سنوات .

أما على مستوى ضحايا "ثورة" التعليم العالي من الطلاب، فحال المحصول العلمي والأكاديمي الشحيح والتأهيل الضعيف يزداد ترديا بالرسوم الباهظة التي تؤدي إلى فصل الطلاب ومنعهم من أداء امتحاناتهم، وبانعدام أوفقر تسهيلات السكن والإعاشة، وبمشاكل الترحيل ومشاقه وتدني الخدمات الصحية وانعدام النشاط الثقافي والرياضي والاجتماعي.

يفاقم من مشكلة الكم في التعليم، تدني نوعية التعليم المستندة إلى آيديولوجية الجبهة الاسلامية. فبدلا من بناء الانسان أصبح هدف التعليم هو تدميره، وبدلا عن إكسابه المعرفة أصبح إفقاره بالجهل، وبدلا عن تنمية قدراته ومهاراته أصبح تحجيم تطلعاته ورؤيته، وبدلا عن تفتيح مواهبه وترقيتها أصبح تدجين فكره ووجدانه وبدلا من ربطه بالعصر والمستقبل أصبح تقييده بالماضي والسلف. عبر محاولتها صياغة المواطن السوداني على قالبها القزم أدانت الجبهة الاسلامية كل منجزات التعليم الحديث في السودان باعتبارها سلباً غربياً استعمارياً لهوية وأصالة ودين وقيم الإنسان السوداني، وكرست الدين جوهراً للعملية التعليمية في كل المراحل وفي التعليم العالي على حساب تنمية المهارات والمعرفة في العلوم والرياضيات واللغات. ويذكر أحد الباحثين أن مناهج الأساس تتضمن حفظ التلميذ وهو في سن التاسعة 60 سورة من القرآن الكريم معظمها صعبة اللغة والمعاني وتتضمن أحكاما معقدة في شئون مثل الطلاق والتحريم و"عتق الرقاب" لا شأن لتلميذ التاسعة بها.

وإذا كان أحد تربويي النظام قد اقترح في مؤتمر التعليم في مطلع التسعينات العودة لنظام الخلاوي فإن ذلك قد حدث فعلا ليس فقط بجلوس القرفصاء وإنما بسيادة أساليب ووسائل الحفظ والتلقين على حساب تنمية مهارات النقد والتحليل والابتكار. لقد اقترح أيضا استبعاد تعليم اللغة الانجليزية واستبدالها بسلة من اللغات تضم اللغة الصينية. وقرر النظام تعريب التدريس في كافة التخصصات في التعليم العالي دون وجود كتب مناهج أو مراجع بالعربية، ثم قرر مؤخرا التخلي عن ذلك القرار المدمر، ولكن بعد أن أدى مفعوله التخريبي .          

البترول:
بعد حوالى أربعين سنة من بداية الاستكشافات، صدر السودان أول شحنة بترولية في منتصف 1999 . وتتراوح الاحتياطات المؤكدة وفقا للتقديرات المتواترة بين 1 إلى 5 بليون برميل، وحتى الأن توجد الحقول الرئيسية في الجنوب وبعضها في المناطق القريبة من الحدود بين الشمال والجنوب ولذلك أضحى البترول جزءا جوهريا في النزاع وكذلك في تسويته.

تحيط السلطة كل المعلومات عن الصناعة البترولية بسياج كثيف من السرية. وكجزء من هذه السرية فإن التوظيف في هيئات ومؤسسسات الطاقة وفي الشركات العاملة ذاتها يمر عبر فحص أمني محكم، وتوجد بالشركات والمؤسسات أجهزة وإجراءات أمن تفوق مايوجد في مناطق العمليات الحربية، ويضاعف من ذلك أن الشركات العاملة الرئيسية هي شركات حكومية ومن بلدان لاتكن للشفافية أي قدر من الاحترام. وقد رفضت السلطة بإصرار كاد أن يؤدي بمفاوضات السلام ذاتها إلى الفشل أن تقبل بالإفصاح عن شروط اتفاقيات البترول لشريكها، كما رفضت بعناد عطل تشكيل الحكومة القومية وكاد أن يطيح بتنفيذ اتفاقية السلام تولي الحركة الشعبية أيا من وزارتي الطاقة أو المالية واللتين قد تمكناها من الاطلاع على المعلومات حول شروط الاتفاقيات وحول كميات الانتاج والتصدير وحجم العائدات النفطية. هذا التكتم لايثير الريبة فقط، ولكنه تأكيد قاطع بأن الجبهة القومية الاسلامية بمثلما تحتكر المعلومات حول البترول فإنها تحتكر الموارد البترولية ذاتها، منتقلة بمسلسل النهب إلى هذا القطاع ومسخرة إياه لقادتها ومخططاتها تماما كما فعلت بالقطاعات الأخرى كلها، والفرق الوحيد أن النهب هنا سيكون بمعدلات أسطورية بحكم ارتفاع العوائد وسهولة وسرعة جنيها.

ونتيجة لتلك السرية، تتضارب المعلومات حتى بين أطراف الحكومة نفسها. فبينما صرح وزير الطاقة في نوفمبر 2003 بأن حجم الانتاج أنذاك كان 300 ألف برميل في اليوم، منها حوالي 80 إلى 90 ألف برميل للاستهلاك المحلي، واعداً بارتفاعه إلى 320 ألف برميل/يوم في سنة 2004 وإلى نصف مليون برميل/يوم في سنة 2005 ، نجد المعلومات الصادرة من إدارة المعلومات بوزارة الطاقة ذاتها تشير إلى أن الانتاج في سنة 2004 لم يتجاوز 288 ألف برميل/يوم وأن الصادرات في نفس السنة كانت بمعدل 143 ألف برميل/يوم. طبقا لرأي خبراء مستقلين في الصناعة فإن توقعات الوزير عن حجم الانتاج في سنة 2005 كانت متفائلة ورأوا أن توقعاً بحجم انتاج يبلغ 400 ألف برميل/يوم سيكون أكثر واقعية. إذا تركنا آراء الخبراء المستقلين جانبا واكتفينا بتصريحات الوزير مقارنة بمعلومات وزارته واستبعدنا أيضا توقعاته واكتفينا بحجم الانتاج الفعلي في سنة 2003 كما حددها آنذاك، أي 300 ألف برميل/يوم، ودون أي زيادة في سنة 2004، فهناك حوالي 12 ألف برميل/يوم مفقودة من حسابات الانتاج وحوالي 70 ألف برميل/يوم مفقودة من حسابات التصدير في سنة 2004. وإذا كان الوزير قد صرح بأن سعة خط الأنابيب تبلغ 288 ألف برميل/يوم أولا يحق لنا أن نتساءل عن السبب الذي يمنعه من التصدير بكامل طاقة الخط؟!

وفقاً لتصريحات الوزير نفسه في نفس الحوار، فإن الخام السوداني يعتبر عالي الجودة إذ أنه لايحتوي على الكبريت مما يسهل بيعه ويزيد من سعره عن أسعار خام برنت القياسي. لقد ظلت أسعار البترول في تصاعد مستمر منذ سنة 2002 وكان متوسطها في عام 2004 يفوق ال 45 دولار للبرميل من خام برنت بينما بلغت في هذه السنة أكثر من 55 دولارا لنفس الخام وتخطت في بعض الأسابيع حاجر ال 65 دولاراً. ولكن البترول السوداني عالي الجودة والأعلى سعراً، وفقا لبيانات إدارة المعلومات بوزارة الطاقة، بيع بأسعار لا تتجاوز 30 دولارا حتى أبريل 2005 أي بتخفيض عن خام برنت الأقل سعرا يبلغ 25 دولارا للبرميل إن لم يزد، وإذا حسبنا إجمالي الخصم للأصدقاء الصينين، وهم المشترين الرئيسيين، في عام 2004 فقط،  فقد كان حوالي مليار و308 مليون و207 ألف دولار، فلنا أن نتساءل عمن هو المشتري الحقيقي والذي سيبيبعه في السوق العالمية المباشرة بسعره الصحيح ويحتفظ بالفرق.!

وإذا أخذنا بتصريحات الوزير كما عدلها الخبراء المستقلون، واعتمدنا الطاقة القصوى لخط الأنابيب كمعيار للتصدير، وذلك هوالمنطقي في حالات ارتفاع الأسعار، فإن قيمة صادرات البترول السنوية ستكون حوالي 4 بليون و100 مليون دولار وذلك بعد خصم قيمة زيت استرجاع التكلفة بنسبة 26% (وفقا لبيانات إدارة المعلومات بوزارة الطاقة)، و نصيب أرباح الشركات الأجنبية وهو غير معلوم، ولكننا نعتقد أن صافي دخل الدولة السنوي من البترول الخام، باستثناء تصدير المشتقات النفطية، ومنذ 2004 وبتحفظ شديد لا يقل عن 3 بليون دولار سنوياً، بينما لم يتجاوز المقدر لميزانية 2004 مبلغ 2.2 بليون دولار و2.7  بليون دولار في عام 2005.

ولكن وحتى إذا وضعنا كل تلك التساؤلات جانباً،  فإن حجم عوائد البترول يؤكد تماما الأثر الإيجابي العظيم الذي يمكن أن يحدثه على نمو وتطور الاقتصاد السوداني وعلى التنمية وعلى الانعتاق من قيود خط الفقر ورفع مستوى المعيشة، ولكن ذلك يعتمد على عوامل عدة تتضمن ما يلي:

·        استمرار السلام وصموده عبر التنفيذ الأمين لاتفاقية السلام الشامل وتحقيق التحول الديمقراطي في الشمال والجنوب معا. بدون إنجاز التحول الديمقراطي العميق والشامل في الشمال والجنوب فإن احتمالات عودة النزاع بأشكال متعددة قائمة وراجحة، وذلك سيعني تعطيل استثمار البترول، بحكم الموقع الجغرافي للحقول الأساسية، وكذلك إهدار العوائد على التسليح والحرب. لذلك فإن التوتر القائم الآن حول تبعية منطقة أبيي يثير القلق وينذر بعواقب وخيمة.
·        فرض الشفافية التامة في كل نشاطات وجوانب صناعة البترول والمعلومات المتعلقة بها بما في ذلك الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية وعمليات الانتاج والتصدير والعوائد والميزانيات. لقد وقعت كل تلك الاتفاقيات حين كانت مواقع العمليات والانتاج مناطق حرب غير آمنة، والسودان في حالة حصار بسبب سياساته، مما وضع الشركات في وضع أفضل لإملاء شروطها. إن استقرار الأوضاع الآن يملي إعادة النظر في شروط تلك الاتفاقات لجعلها عادلة ومنصفة. كما إن الرقابة الشعبية القومية والمستقلة هي ضرورة قصوى لضمان حسن استغلال هذا المورد ولايمكن ممارستها دون إشاعة الشفافية وحرية تداول المعلومات، وبغير ذلك فستهدر كل العوائد من خلال النهب والفساد.
·        الإدارة الفعالة والحكيمة للموارد البترولية، ويتضمن هذا أولاً وضع سياسة انتاج تراعي الاستغلال الأمثل للحقول لأطول فترة زمنية ممكنة. إن إمكانية انفصال الجنوب، حيث الحقول الرئيسية، بعد نهاية الفترة الانتقالية، ستدفع السلطة لاستنزاف أقصى ما تستطيع من تلك الحقول عن طريق "الاستغلال النهبي" قبل أن تخرج من نطاق سيطرتها، وسيؤدي ذلك الاستنزاف إلى إلحاق أضرار بليغة بالحقول والمكامن وقدرتها الانتاجية. من الجانب الآخر فإن الإدارة الحكيمة تقتضي استقطاب وتوظيف المؤهلين وأصحاب الخبرة من المواطنين بدلا من أصحاب الولاء وتقتضي زيادة فرص العمل للعمالة الوطنية عن طريق التدريب والتأهيل وخطط إحلال المواطنين وكذلك توفير فرص العمل بشكل أساسي لأبناء المناطق المنتجة وإعطائهم الأولوية في التوظيف.
·        تطوير وتوسيع صناعة التكرير لتعظيم عوائد التصدير من جانب، ولتأسيس قاعدة للصناعات القائمة على المشتقات النفطية ونواتجها العرضية خاصة في مجال البتروكيماويات، مما يحسن من البنية الصناعية ويساهم في ترقية البنية التحتية للاقتصاد ككل ويوفر فرصا أكثر للعمالة.
·        عوائد البترول لن تؤدي إلى نمو مضطرد دون بيئة اقتصادية مؤسسية، ودون تراكم رأس المال البشري والمادي، ودون الاهتمام بتطوير القطاعات الاقتصادية والانتاجية  الأخرى، وبما أن البترول مهما تعاظمت احتياطياته، هو سلعة ناضبة ومورد غير متجدد، فلابد من استخدامه لتطوير قطاعات الانتاج وبدائل الطاقة المتجددة.
·        الموارد والعوائد يجب ان تستغل وفقا لأولويات واضحة تبدأ بإعادة بناء ما دمرته الحرب وإعادة تأهيل الجنوب والمناطق المهمشة ومعالجة أوضاع النازحين ومحاربة وإزالة الفقر وبناء مؤسسات قوية وتمويل الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم وتطوير البنية التحتية الضرورية لتنويع الاقتصاد وتحسين البيئة بما في معالجة الآثار البيئية الضارة الناجمة من عمليات انتاج البترول ذاته، وهي آثار بليغة الضرر بحكم أن الشركات العاملة الرئيسية لا تمتلك التكنولوجيا المتقدمة ولا تكترث كثيراً لحماية البيئة أو أنظمة واشتراطات السلامة حتى في بلدانها ذاتها.                      

المدخل للمعالجة:

الأزمة الوطنية المترابطة الحلقات التى توحلت فيها البلاد منذ الإستقلال ، والتى حددنا معالمها في وثائقنا الأخرى، تمثل وجهها الاقتصادي في التطور غير المتوازن وغير المتكافيء المنحاز للقطاع الحديث مقابل القطاع التقليدي الزراعي الرعوي، وللمناطق الحضرية إزاء المناطق الريفية، وللطبقات الاجتماعية الرأسمالية العليا والمتوسطة على حساب الطبقات الفقيرة والمسحوقة. لقد كانت النتائج المباشرة لكل ذلك، مصحوباً بالحرب الأهلية، هي اتساع الهوة والفجوات والفوارق بين الطبقات الاجتماعية من جانب وبين الأقاليم من جانب آخر، تدهور مستوى المعيشة، تفشي البطالة بكل أنواعها، تفاقم حدة الفقر، اندياح النزوح، انتشار الأمية وانهيار التعليم، تدهور الصحة والبيئة وسوء التغذية والمجاعات، تمكن التخلف، تدني الانتاج، الاستيراد الاستهلاكي، انهيار مشاريع التنمية وانسداد آفاقها، عجوزات الميزانية والموازين، اندلاع وانفلات التضخم،.. إلخ. لقد كرس كل هذا ووطد ظواهر التهميش والتوزيع الظالم للدخل القومي والثروة رأسياً وأفقياً واجتماعياً وجغرافياً، تهميش الغالبية الساحقة من الشعب وسلب إرادته وتهميش الأقاليم وأهلها. إن ما فعلته الجبهة القومية الإسلامية منذ استيلائها على السلطة في 1989 لم يك سوى الاستمرار في تطبيق تلك السياسات على نحو مكثف وشرس وفظ. 

لقد ذكرنا في برنامجنا السياسي أن "السلطة لا تستطيع السير في طريق التنمية والرخاء، وذلك بحكم  تركيبتها  ذاتها. فإذا كانت الحرب هي مصدر الإهدار الأساسي للثروات الوطنية منذ  الاستقلال وحتى الآن،  فان السلطة الحالية قد جعلت من الحرب تبريراً لوجودها، وليس منتظرا أن تنتهي الحروب وهذه السلطة قائمة، ولذلك سيبقى الاقتصاد السوداني اقتصاد حرب في الأساس. وإذا كانت الطبيعة الطفيلية للعناصر الحاكمة هي المصدر الثاني لإهدار الثروة  الوطنية،  فإن التكوين الطفيلي  لهذه السلطة اكثر نقاءً وكثافة من أية سلطة سبقتها. ولا تتوقف الطفيلية على أشخاص الحكام ومؤسسات الحكم، بل تمتد إلى أجهزة القمع والدعاية والبذخ والتفاخر، وأساليب التهريب والفساد، المصاحبة لهم  كظلهم. لكل ما تقدم فإن طبيعة السلطة والتي جوهرها النهب وحارسها القمع لم تتغير، وإذا كان هناك من تغيير محتمل فسيكون في اتجاه تكثيف تلك الممارسات وتصاعد وتائرها بحكم انحسار الرقعة الجغرافية بعد الانفصال المحتوم في تخطيطهم وبحكم تضاؤل الموارد بذهاب معظم البترول والذي هو أصلاً مورد ناضب غير متجدد بطبيعته."

يأتي مشروع ميزانية سنة 2006 وهي أول ميزانية بعد توقيع إتفاقية السلام الشامل، ليؤكد تماماً ما ذهبنا إليه، فكما أن البترول لم يحدث تغييراً إيجابياً في معيشة المواطنين، فإن توقف الحرب في الجنوب لم يؤد إلى إي تغيير يذكر في توجهات السلطة وأولوياتها. مازالت موارد البلاد تهدر في الدفاع والأمن والتسليح وجهاز الدولة المركزي المتضخم والصرف البذخي على حزب الحكومة وعملائه في الداخل والخارج ومنافذ الفساد المصاحبة. لازالت التنمية والخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه نظيفة وكهرباء غائبة عن أولويات الصرف. مازالت محاربة الفقر ومعالجة النزوح وواجبات إعادة التأهيل بعد الحرب مفقودة في بنود الإنفاق. ما زال امتصاص دماء الشعب وإثقال كاهله بالضرائب والجبايات مستمراً. مازال العبء الضريبي غير عادل يتحمله الفقراء والمسحوقون. ولاتزال عائدات البترول ومشتقاته والمعادن النفيسة طلاسماً تؤكد النهب الأسطوري.     

يبقى إذن أن الشرط الأول والأساسي لإحداث أي تعديل في مسار الإقتصاد السوداني هو ذهاب سلطة المؤتمر الوطني، بغير ذلك، توقفت حرب الجنوب أم اندلعت من جديد، جاء البترول أم نضب، ليست هناك أدنى فرصة لأي تحول اقتصادي، ويبقى التحول الاقتصادي رهناً بالتحول الديمقراطي الحقيقي. إن حكومة ديمقراطية، منتخبة ديمقراطيا،ً ممثلة لأوسع قطاعات الشعب وجماهيره المهمشة والمسحوقة، ذات برنامج وطني قومي يضع أولويات البلاد والشعب في الصدارة، تمارس الحكم بشفافية، قابلة للمسائلة وخاضعة للمحاسبة، وحدها هي المؤهلة لإيقاف الإنهيار الاقتصادي وتوفير الاستقرار وتطوير الإقتصاد في اتجاه إيجابي.

في صياغتنا لبرنامج الحركة الاقتصادي ننتقل شيئاً فشيئاً وتدريجياً من العموميات المطلقة التي تضمنتها المنطلقات الأساسية والقيم الكلية للبرنامج، إلى رسم إطار عريض يتناول القضايا الأساسية المستوى النظري ويخط الأهداف العامة التي ينشدها البرنامج وفي مرحلة لاحقة يحدد ويتصدى للمشاكل العملية والمباشرة في إطار الموجهات النظرية والأهداف العامة كل على أرضيتها الخاصة وبالنظر في تفاصيلها الدقيقة ووضع الخطط العملية لمعالجتها وفق أولويات وآفاق زمنية محددة. لايمكننا في هذا الحيز التصدي لكل ذلك، كما أن ضرورات المعالجة ذاتها تقتضي منا أن نكتفي الآن بوضع الإطار النظري للبرنامج وقد نتعرض لبعض المشاكل التفصيلية بحكم راهنيتها على أن نعود إليها فيما بعد بدراسة أعمق.

يرمي برنامجنا إلى إيقاف التدهور الاقتصادي ويبدأ ذلك من استرداد أموال الشعب وموارد البلاد المنهوبة وإعادة تكوين القيادات والإدارات والمؤسسات الاقتصادية للدولة على النحو الذي يطلقها من إسار الحزب الحاكم والنخبة الطفيلية المسيطرة، إعادة التعمير بدءاً باستحقاقات اتفاقية السلام الشاملة ومعالجة آثار الحرب بتأهيل البنى التحتية الأساسية وإعادة بناء المناطق التي دمرتها الحرب وتنفيذ برامج توطين النازحين واللاجئين، دعم السلع الضرورية والخدمات الاجتماعية في إطار سياسة متكاملة لمحاربة الفقر ومساعدة الطبقات الشعبية والمسحوقة على الخروج من دائرة الفاقة والإدقاع، تعديل النظام الضريبي لتحقيق عدالته وموضوعيته ولتضييق الفوارق بين الدخول، والالتفات لإعادة تأهيل الاقتصاد الريفي وتطويره وإعادة تأهيل القطاع الزراعي بحل مشاكل مشاريع الزراعة المروية والزراعة المطرية التقليدية فالزراعة الآلية وتطوير قطاع الثروة الحيوانية والسمكية، ووضع خطط التنمية والاستثمار في القطاع الصناعي وفق استراتيجية مرنة، ومن ثم الانطلاق على طريق التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للثروة.

نصيغ برمامجنا أيضاً إنطلاقاً من إن العدو الأول لشعبنا هو التخلف، والذى لن ننتصر عليه إلا بتعبئة طاقات الشعب ككل وذلك بالتخطيط الذى يحدد الأوليات الوطنية ويرسم الأهداف الإجتماعية، ويعمل على تحقيقها بأكثر الصور عقلانية ورشداً،بإكتشاف الثروات القومية وإستغلالها إستغلالاً عادلاً، وبتثوير وسائل الإنتاج بالإستفادة من مكتسبات العلم والتقنية، وإبتداع التقنيات الملائمة لتطور منتجينا، ورفع الإنتاجية وبث قيم العمل والإنتاج، وبترقية المهارات الإنسانية بالتعليم والتدريب والتحفيز، وبتوفير مقومات الحياة الإنسانية العصرية، وبتوفير الخدمات الأساسية، ومحاربة الجوع والمرض والجهل، وبالإهتمام بقضايا البيئة وعلى رأسها ظاهرتا الجفاف والتصحر التى تهدد المجتمعات الريفية، وتقلص الرقعة الزراعية والرعوية، وتؤدى إلى تدهور عام فى الوضع البيئى وتفادى الأخطاء الفادحة التى كشفت عنها تجارب بعض البلدان التى أنشأت نهضتها الصناعية دون الإلتفات إلى التدمير البيئى الذى صاحب تلك النهضة، وبالمحافظة على الثروة الحيوانية الهائلة التى يملكها السودان وتنميتها، ثم بالعلاقات الدولية التى توفر التمويل، وتنقل المعرفة والعلم والتقنية، وتحقق التكامل الإقتصادى، وتواجه إختلالات توزيع الموارد وندرتها.

إن رؤيتنا للعدالة الاجتماعية تقوم على أن ملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج وتصرفها فى كل ثروات المجتمع، وتحكمها فى مصائر المنتجين، قد إنسدَ تماماً كباب للعدالة الإجتماعية. بل أصبح، على العكس من ذلك تماماً، مصدراً للمظالم الإجتماعية الفادحة، المتمثلة فى خلق بيروقراطية جبارة، شرهة وقاسية، تجرد المنتجين من فوائض إنتاجهم، وتسلبهم كل مقومات السيطرة على مصائرهم، وتخترق مؤسسات المجتمع المدنى التى يكون التأميم الشامل قد جردها من كل وسائل الحماية الذاتية. ومع ذلك فإن ملكية الدولة الديمقراطية، الخاضعة لسيادة الشعب ورقابته المباشرة والتمثيلية، لبعض وسائل الإنتاج الهامة، ونشاطها فى بعض القطاعات الأساسية، وتدخلها فى النشاط الإقتصادى لتحقيق أهداف إجتماعية محددة، أصبحت أمراً ضرورياً لإشاعة العدالة الإجتماعية. إن المهام التى يضطلع بها قطاع الدولة، المدار ديمقراطياً، هى فى نظرنا التالية:
·        التحكم فى الموارد الإستراتيجية وإستغلالها لمصلحة المجتمع ككل.
·        توفيرالخدمات الأساسية من تعليم وصحة وسكن.
·        الأستثمار فى المشاريع ذات المردود الأقتصادى البطئ أو المتدنى، والمردود الأجتماعى والسياسى المرتفع.
·        الأضطلاع بتدريب القوى العاملة.
·        الإشراف على المشاريع التكاملية بين الدول.
·        الإشراف على التجارة الخارجية والقروض والمعونات.
·        تحديد السياسات التمويلية والمالية والتحكم فيها من خلال البنك المركزى.

إننا منحازون إجتماعيا للفقراء والكادحين والمستغلين والمقهورين، ولغيرهم من المنتجين بأذهانهم و أيديهم، ولذلك فإننا نرفض الملكية الرأسمالية الخاصة لكل وسائل الإنتاج بمثلما رفضنا ملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج. إن الرأسمالية المنفلتة، القائمة على مبدأ "ليفعل من يشاء مايشاء" تؤدى بالضرورة إلى سحق المنتجين وتفاقم الأستغلال، وزيادة إختلالات توزيع الثروة بحيث يصير الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً. ومع ذلك فإننا نشجع الرأسمالية المنتجة، أى التى توفر شروطاً ضرورية للإنتاج، ونرى أنها تلعب دوراً هاماً فى تطور بلادنا، بتشييدها للمشاريع  الإنتاجية، وإعادتها لإستثمار الفوائد والأرباح، وبمساهمتها فى نشر فرص العمالة، وحفزها للنشاط الإقتصادى، ومقدرتها على توصيل السلع المنتجة إلى كل أنحاء البلاد.
ولكننا نلجأ إلى لجم إتجاهاتها الإستغلالية والطفيلية بالإجراءات التالية:
·        فرض شروط وطنية للعمالة ملزمة لكل القطاعات بما فى ذلك القطاع الخاص.
·        ترقية آليات التفاوض الجماعى لتحقيق علاقات أنتاجية أكثر عدلاً بإضطراد.
·        فرض الضرائب التصاعدية للصرف على مشاريع الضمان الإجتماعى، وتمويل المؤسسات العامة.
·        تشجيع الإمتلاك المباشر من قبل المنتجين لوسائل إنتاجهم ويأتى على رأس هؤلاء الحرفيون، والمهنيون، والباحثون والكتاب والصحفيون والفنانون والمصممون، وغيرهم.
·        تشجيع الملكية التعاونية بكل أشكالها وفى كل حقوق الإنتاج.
·        تشجيع إمتلاك الأسهم، وإنشاء الصناديق الإجتماعية مثل صناديق الضمان الإجتماعى، والمعاشات، والمؤسسات الخيرية.

الشائع أن هناك تناقضاً جذرياً بين النمو الاقتصادي والعدالة، وأنه لابد للناس وللدول اختيار هدف من بين الهدفين أو سبيل من بين الاثنين، إما تحقيق وتائر عالية من النمو الاقتصادي وتصاعد الناتج القومي الاجمالي أو تحقيق العدالة في توزيع الدخل وتقليل الفجوة بين الدخول. وقد أثبتت تجارب العديد من البلدان، البلدان الاسكندنافية على سبيل المثال، خطل هذه المقولة بمعنى أنه من الممكن تماماً تحقيق التوافق بين الهدفين وإنجازهما معاً. كما أثبتت تجارب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فيما يتعلق بتطبيق سياسات التكيف الهيكلي، والرامية إلى إحداث نمو اقتصادي متسارع على حساب العدالة الاجتماعية ومصالح الطبقات الشعبية المسحوقة والفقيرة، وما نجم عنها من كوارث وانفجارات اجتماعية نتيجة تعاظم استئثار القلة بالثروة وازدياد الفقر حدة وانتشاراً، إلى اعتراف تلك المؤسسات بالآثار الاجتماعية السالبة لسياساتها وإن لم يترجم ذلك الاعتراف إلا في حزمة من الإجراءات والترتيبات الهامشية. وقد ثبت أيضاً من تجربة نظام الجبهة القومية الاسلامية، والتي طبقت سياسة التكيف الهيكلى بحذافيرها وبفظاظة غير مسبوقة، أنه من الممكن لسياسة تهدف إلى تحسين النمو على حساب العدالة أن تنتهي إلى عدم تحقيق أي منهما.

إننا نعتقد أن السياسات المناسبة لزيادة النمو الاقتصادي من جانب والسياسات الهادفة لتحقيق العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع العائد من الجانب الآخر مرتبطتان تماماً سياسياً واقتصادياً، كما توصلت إلى ذلك من قبل العديد من مؤتمرات وأوراق وأبحاث الاقتصاديين الوطنيين السودانيين. إن سياسة تهدف إلى تحسين كم ونوع التعليم وترقية الرعاية الصحية والحد من البطالة بتطوير المهارات لابد أن تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي من جانب بتقليل التكاليف الضرورية لاحتواء الآثار السالبة للأمية والجهل والمرض والبطالة ومن جانب بترقية الانتاجية كماً ونوعاً.     

في معالجتنا لقضية توفير الخدمات الاجتماعية والأساسية، فإننا نرى أن الدور الاجتماعي للدولة في السودان ظل تاريخياً ينحاز ضد الغالبية العظمى من جماهير الشعب نازعاً لتركيز هذه الخدمات في مثلث الوسط على حساب الأقاليم وتوفيرها للشرائح القليلة من الطبقة الوسطى في المدن على حساب ملايين البسطاء من صغار المزارعين والرعاة في الريف. وقد بلغت سلطة الجبهة القومية الاسلامية بذلك الانحياز إلى نهاياته القصوى بأن جعلته انحيازاً كاملاً من الدولة ضد كل المواطنين وضد كل المناطق برفعها ليد الدولة تماماً عن توفير الخدمات الاجتماعية والأساسية وركلتها إلى أجهزة الحكم الولائي عديمة الموارد فاستثمرتها هذه كمصدر للدخل بدلاً من كونها بنداً للإنفاق، وأطلقت يد القطاع الخاص فيها دون قيود أو ضوابط. إن مداخلنا لمعالجة هذه القضية هي:
·        مدخل الحقوق المتضمن لحقوق المواطنين في العقد الاجتماعي، وكذلك الحقوق الانسانية باعتبار التعليم والرعاية الصحية والسكن والعمل هي من حقوق الانسان الاجتماعية والاقتصادية التي نصت عليها المواثيق والعهود الدولية.  لقد أدى اهتمام منظمات حقوق الانسان السودانية وغيرها بقضايا الحقوق السياسية والمدنية إلى غض الطرف عن تلك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في مجتمع كالمجتمع السوداني حيث تسود الأمية والجهل وحيث تحتقر الحياة وتنتشر الأوبئة والأمراض والمجاعات وحيث يقبع الملايين من النازحين في الخيام أو بلا غطاء أو مأوى وحيث يروح مئات الآلاف من الأطفال ضحية التشرد، فإن حقوق التعبير والتنظيم تصبح في نظر أولئك الملايين من المسحوقين والمحرومين ترفاً لاغير. في هذا الإطار لابد من أن تناط بالدولة مسئولية توفير هذه الخدمات لمواطنيها وإتاحة سبل الوصول إليها والاستفادة منها لهم، مجاناً فيما يتعلق بالتعليم الإلزامي والرعاية الصحية الأولية والصحة العامة والوقائية، وبرسوم لاتتعدى التكلفة الحقيقية فيما تبقى من الخدمات.

·        مدخل العدالة الاجتماعية بالتوزيع العادل لهذه الخدمات الاجتماعية والأساسية بين المواطنين وبين المناطق بحيث ُيعْطَى الفقراء والمسحوقون وتُعْطَى الأقاليم الأقل نمواً أولوية واضحة في توفير هذه الخدمات. بينما تتحقق العدالة في التوزيع بين المركز والهوامش عن طريق توفير الموارد لأجهزة الحكم الولائي للصرف تحت عين ونظر الرقابة الشعبية، فإن العدالة في التوزيع بين المواطنين تنجز عن طريق النظام الضرائبي، أولاً، بربط الضرائب نفسها بتوفير الخدمات كخطوة في طريق ترسيخ مفهوم "دافع الضريبة"، وثانياً بعدالة النظام الضرائبي نفسه في تعظيم الضرائب المباشرة التصاعدية بدلاً من الضرائب غير المباشرة.

في ارتباط بمدخل الحقوق يستهدف برنامجنا إنشاء وتطوير لجان الحقوق الشعبية، جهازاً يمارس على المدى البعيد مهمة اتخاذ القرار فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين على أقرب مستوى لديهم، على مستوى القرية والحي السكني، وعلى المدى القريب يقوم بمهمة الرقابة الشعبية على أداء أجهزة السلطة الولائية. إن المفصل الذي يؤهل هذه اللجان للانتقال مستقبلاً لجهاز ديمقراطي لإدارة حياة المواطنين على المستوى الأقرب هو النشاط التعاوني، بأن تكون هذه اللجان شكلاً لتوفير السلع والخدمات على أساس تعاوني في ذات الوقت الذي تمارس فيه رقابتها الشعبية على أداء المجالس والهيئات الحكومية. هذه اللجان هي بديلنا الديمقراطي للجان الشعبية التي أنشأتها الانقاذ أداة لممارسة القمع والفساد على أدنى مستوى ممكن.

إن الحديث عن إعطاء الأولوية لتوفير تلك الخدمات الاجتماعية لايمكن أن يكتسب أي جدية مالم يرتبط بمؤشرات ومعايير كمية يمكن قياسها والتحقق منها ويمكن أن توضع تلك المعايير وتطبق على كل من المحورين المذكورين أعلاه. ففي المحور الأول يجب أن ينعكس إعطاء الألوية في تحديد نسب معينة كحد أدنى من الإنفاق الحكومي للصرف على الخدمات الاجتماعية ويجب أن تفوق هذه النسب على الأقل الإنفاق الحكومي على قطاعات الأمن والدفاع والتسليح. أما في المحور الثاني فإن المعايير تشمل نسبة القيد في المدارس، نسبة المدرسين إلى التلاميذ، نسبة الفاقد التعليمي، عدد المستشفيات والمراكز الطبية والشفخانات, نسب الأخصائيين والأطباء العموميين والزائرات الصحيات والدايات المؤهلات وغير ذلك من المهن الطبية لعدد المواطنين، نسبة أسرة المستشفى لعدد المواطنين .. إلخ بلإضافة إلى أهداف كمية لآستئصال الأوبئة والأمراض المستوطنة ووفيات الأطفال والولادة. يجب أن تضع أجهزة الحكم الولائي خططها لتطوير تلك الخدمات لتحقيق أهداف محددة لبلوغ النسب المحددة في إطار زمني محدد، وأن تحدد المكون المحلي الذي ستتكفل به الولاية ومصادره ثم الدعم المطلوب من الحكومة المركزية، واضعين في الاعتبار أن هذا الدعم سيزداد ويتصاعد كلما ازداد الاقليم تهميشاً وفقراً، وأن هناك بقعاً معينة داخل المناطق المهمشة أو غير المهمشة، كمعسكرات النازحين وقراهم، تحتاج إلى معالجات خاصة.

في إطار تلك المعالجات، يجب التركيز في مجال التعليم على تأهيل المعلمين وتوفير المواد والمعدات الضرورية للعملية التعليمية وتغيير مضمون المناهج بترقيتها علمياً وشمولها وطنياً وقومياً وانفتاحها انسانياً. كما لابد من التركيز على التعليم المهني والفني والعمل على زيادة نسبته للتعليم الأكاديمي وإتاحته في كل الأقاليم مرتبطاً بخطط التنمية في الإقليم المعين، ويتضافر مع هذا أيضاً اهتمام باعادة استيعاب الفاقد التعليمي واسترداده عبر توفير مؤسسات التعليم المستمر والتعليم عن بعد والتعليم الإضافي. في النهاية لا يكتمل الإصلاح التعليمي في السودان، بل في حقيقة الأمر لا يمكن له أن يبدأ، دون خطة محددة شاملة قومية لمحو الأمية. عار الأمية الذي يكبل ما يفوق ال 60% من شعبنا، ونعني أمية القراءة القراءة والكتابة فقط، لا يمكن أن يستمر، ولا يمكننا الحديث عن خطة تنمية أو خطط للنمو الاقتصادي في واقع الجهل المظلم هذا. يجب أن توضع حملة محو الأمية كبند منفصل تخصص له اعتمادات واضحة في ميزانية الدولة والحكومة المركزية ونقترح تكوين صندوق قومي لمحو الأمية، ذي مجلس أمناء من أشخاص ذوي صدقية وطنية ودولية، توجه نحوه تلك الاعتمادات كما يعمل على استقطاب المساهمات الوطنية والدولية وتسخيرها لتنفيذ الحملة بأهداف محددة بالأرقام وبالإقليم وبالنوع، كما نرى أن توجه الخدمة الوطنية الإلزامية تحديداً للمشاركة في هذه الحملة، وان يتضمن المنهج التعليمي في المرحلة الثانوية وفي التعليم العالي تدريباً للطلاب على المشاركة في الحملة وتدريس غيرهم.                

في مجال الخدمات الصحية لابد إيلاء اهتمام أعظم بقضايا الصحة الوقائية، خاصة تطعيم الأطفال، ومشاكل صحة البيئة وتوفير المياه النقية. كما لابد من وضع سياسة للتصنيع الدوائي توفر الدعم المكثف للاستثمار في هذا المجال مقابل الانتاج وفق احتياجات البلاد وتوفير الأدوية والأمصال والمحاليل والمواد الطبية بأسعار معقولة. لقد اتضح فشل وعدم عدالة سياسة توفير الدعم للدواء في نهاية السلسلة (أي للمريض مقابل الروشتة) عن طريق صناديق الزكاة وغيره، ونحن نقترح أن تذهب مساهمة تلك الصناديق والأجهزة للمنبع والمنتج في بداية السلسلة، فبالإضافة إلى توفير الدواء وتوفيره بثمن معقول تجني البلاد الفوائد الإضافية من فرص عمالة وإمكانيات للتصدير.


لقد ازداد جهاز الخدمة العامة القائم تاريخياً على مفاهيم استعباد الشعب وامتصاص فوائض انتاجه بشتى السبل والأساليب، ضراوة في ممارساته في ظل نظام الجبهة القومية الاسلامية. لقد قامت الجبهة بطرد أصحاب الخبرة والكفاءة المهنية وأبدلتهم بأفراد من مصانعيها يفتقرون إلى أبسط المؤهلات ولايملكون سوى الولاء لها. هذا المزيج من كثافة الولاء وانعدام المؤهلات كان نتاجه أن اصبحت السمة العامة لهذا الجهاز هي تدني الأداء وانحطاط مستوياته واستشراء الفساد بكافة أشكاله من رشوة واختلاسات وتوظيف لموارد البلاد للمصالح الخاصة. بخصائصه هذه لا يمكن لهذا الجهاز أن يكون مسئولاً عن إدارة مهام التحول والاصلاح الاقتصادي، مالم يعالج من خلال عملية إصلاح إداري شاملة وجذرية تستهدفه عقلية وقيادات وأفراد، سياسات وتوجهات وإجراءات.

من الضروري تماماً إجراء مراجعة شاملة لكل التعيينات في المواقع القيادية منذ يونيو 1989 واستبعاد جميع من تقلدوا هذه المناصب بغير استحقاق، كما من الضروري أيضاً مراجعة كافة قضايا الفساد في هذا الجهاز وتقديم مرتكبيها للمحاكمة العادلة. سيكون إرجاع المفصولين عن العمل من أصحاب الخبرة والكفاءة أحد مقومات مشروع الإصلاح الإداري ويترافق معه العمل الجاد والإجراءات الجاذبة لعودة الكفاءات والخبرات المهاجرة. فقر الحصيلة العلمية والمهارية الناتج من تدهور المضمون التعليمي يجعل من التدريب المتخصص والموجه أولاً نحو تعويض نقاط نقص المعرفة وضعف المهارة، ثم نشر القدرة على التعامل مع الوسائل والأجهزة التقنية المتقدمة، ضرورة لا غنى عنها. ولكن كي يثمر هذا فلا بد من إشاعة الشفافية في إجراءات وعمل هذا الجهاز. لابد من تغيير القوانين واللوائح والإجراءات التي توفر لبعض الأفراد في مواقع القيادة القدرة على توجيه القرارات الإدارية خاصة المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والمالية كما يشاءون، والتي تعيق بقية المواطنين من الحصول على المعلومات أو الوصول إلى الأدوات والوسائل لتي تمكنهم من المنافسة العادلة على الفرص على قاعدة من المساواة. إن المعلومات هي أداة السلطة والثروة الرئيسية في عالم اليوم ولذا تصبح إشاعتها بكافة الوسائل وتوفيرها للجميع وفق إجراءات معلومة واضحة ومبسطة ضرورة قصوى لممارسة الرقابة الشعبية ولضمان نزاهة هذا الجهاز.

تمويل برنامج الاصلاح الاقتصادي يستند إلى شقين، المكون الداخلى والمكون الخارجي. ولكن المكون الخارجي يعتمد بصورة كاملة على جدية الدولة في توفير المكون المحلي، فالدولة لن تتمكن من استقطاب الدعم الدولي مالم تبدي جديتها في التصدي لمسئوليتها هي أولاً وتوظيف كل إمكاناتها ومواردها لتنفيذ ذلك البرنامج.
في توفير المكون المحلي نعتمد:
·        إعادة ترتيب أولويات الصرف والإنفاق ويشمل ذلك إلغاء الصرف البذخي والاحتفالي والتفاخري، إلغاء الإنفاق على حزب الحكومة ومنظماته ومحاسيبه وعملائه في الداخل والخارج، تخفيض الإنفاق على جوانب الأمن والتسليح والدفاع وأجهزة الشرطة الشعبية والدفاع الشعبي وغيرها، تخفيض الإنفاق على تضخم أجهزة الحكم المركزي والاتحادي والولائي وامتيازاتها الفائقة، تخفيض الإنفاق على السفر والوفود والمؤتمرات.
·        توجيه الاستيراد نحو السلع الضرورية ومدخلات الانتاج ومعداته وتقييد استيراد السلع الكمالية.
·        حشد كل الموارد والمدخرات الوطنية المحلية واجتذاب الأموال والمدخرات السودانية في الخارج بما في ذلك سياسة واقعية ومرنة وديمقراطية تجاه المغتربين السودانيين.
·        استرجاع حقوق وأموال وموارد الشعب المنهوبة.
·        إعادة تأهيل وتعمير وتوظيف كل الطاقات الانتاجية الموجودة بحل المشاكل الراهنة لقطاعى الزراعة والصناعة.
·        حل مشاكل التصدير وتبسيط إجراءاته.

في توفير المكون الدولي نعتمد على:
·        التفاوض لإلغاء أو تخفيض أو إعادة جدولة الديون الخارجية باعتبارها شرطاً ضرورياً لاستقطاب العون والمساعدات والقروض. التحول الديمقراطي واحترام حقوق الانسان والاجراءات الفعالة لمكافحة الفقر هي من العناصر الأساسية الداعمة لإلغاء الديون.
·        تحسين علاقات السودان الخارجية والكف عن افتعال النزاعات الإقليمية أو التدخل فيها ورفع اليد نهائياً عن دحم الحركات الإرهابية، كل هذا يساعد على بعث العلاقات الثنائية وتطويرها.
·        الاستغلال الكامل لعضوية السودان في المنظمات الدولية ووكالاتها المتخصصة وفي المنظمات الإقليمية وتحسين العلاقات مع منظمات التمويل العالمية.
·        فتح الباب أمام منظمات العمل الطوعي الدولية والأجنبية ورفع العراقيل والقيود والقوانين والإجراءات المحبطة عن وجودها وحركتها.

في إطار توفير المكون المحلي تكتسب مسألة استرداد أموال وموارد الشعب وعلى رأسها قضية الخصخصة أهمية خاصة. وفي تصدينا لهذه القضية لا ننطلق من أي تصور أيديولوجي مغلق أو حنين رومانسي لدور الدولة أو القطاع العام. لم يعد فشل الدولة في تحقيق النمو أو العدالة الاجتماعية عن طريق تملك وإدارة وسائل الإنتاج يحتاج إلى دليل سواء على المستوى العالمي أو في إطار تجربتنا المحلية. كما أن التحول لاقتصاد السوق لم يعد مجرد آلية للتكيف الهيكلي مفروضة من قبل مؤسسات الرأسمالية الامبريالية، إنما ضرورة للبقاء في عالم يزداد "عولمة"، عولمة تهدف إلى تعميم السوق لا في المجال الاقتصادي فقط وإنما على مجمل النشاط الانساني، وشرطاً للتعامل الدولي في إطار منظمة التجارة العالمية. ولكن في نفس الوقت فإن تحويل موارد وممتلكات القطاع العام للقطاع الخاص لابد له من أن يتم في إطار يضمن الحفاظ على حقوق الشعب ويوفر له أفضل العائدات. من هذا المنظور نقيم تجربة الخصخصة على أيدى الجبهة القومية الإسلامية. مصالح الشعب والبلاد لم تكن واردة في خطة الإنقاذ فقد شملت المؤسسات التي خصخصت مؤسسات ووحدات إنتاجية رابحة تماماً ووحدات أخرى كانت هناك معوقات معظمها سياسي وإداري تقف بينها وبين الربح، أي أنها لم تكن خاسرة لأسباب اقتصادية. لقد هدفت الانقاذ من خصخصة تلك المؤسسات أن ترفع عن نفسها مسئولية الصرف على إصلاح وتأهيل تلك الوحدات وتحويلها إلى مورد سريع العائد عن طريق بيعها كاملة أو جزئياً أو إيجارها، كما هدفت أيضاً من خلال ذلك إلى تسريب تلك الموارد إلى أيدي مواليها من الرأسمالية الطفيلية في إطار سياسة التمكين، وإلى تحسين صورتها لدى المؤسسات المالية والتمويلية الغربية. لقد أدت تطبيقات الخصخصة على يد نظام الجبهة الإسلامية إلى نتائج كارثية بعيدة المدى على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فمن جانب أدت إلى تشريد الآلاف من العاملين وتركهم وأسرهم نهباً لصناديق التكافل والزكاة التي لم تك مؤهلة لمساعدتهم، ومن جانب حولت موارد الشعب بأثمان تم تبخيسها لقبضة فئة صغيرة من رأسماليي الجبهة والشركات الأجنبية. إن القضية الأساسية الجديرة بإعادة النظر إذن هي تطبيقات نظام الجبهة القومية الاسلامية للخصخصة والتي اكتنفها الفساد والعبث والإهدار لموارد البلاد والشعب. ما يجب معالجته هو تقييم الأصول التي بيعت وإعادة تقييمها بأسعارها الحقيقية والتفاوض مع مالكيها لاسترداد الفرق عبر أكثر الوسائل والأساليب فائدة للشعب. ما يحتاج للمراجعة هو إجراءات التخصيص التي اتبعت ومجافاتها لأسس الشفافية وقوانين السوق والتفاوض لاسترداد الخسائر الناجمة عن ذلك. المؤسسات الاقتصادية التي آلت إلى منظمات النظام والجبهة القومية الاسلامية وأجهزة الأمن لابد من استردادها فوراً ومطالبتها برد الفوائد والأرباح والتعويض. الاحتكارات وإجراءات الحماية التي منحت للشركات التي تم تخصيصها لابد من إلغائها وفتح الباب أمام المنافسة الحرة وإنشاء شركات مساهمة وطنية لدخول المنافسة.

وبنفس القدر تكتسب قضية الديون أهمية كبيرة فيما يتعلق بجهد توفير المكون الأجنبي. وهنا لابد لنا أن نبدأ بجهد منظم لامتلاك ونشر المعلومات الصحيحة، فما زال الرقم الصحيح لإجمالي الدين الخارجي خافياً وتتراوح التقديرات بين 20 إلى 35 مليار دولار. اختلاف التقديرات يعود من ناحية لتكتم السلطة على الأرقام الحقيقية لأغراضها الخاصة وتغطية علاقاتها المشبوهة، ومن ناحية لتعدد الجهات المستدينة وتنازعها السلطات والاختصاصات حيث السلطة لا تحكمها الصلاحيات والمسئوليات المحددة بقدر ما تقوم على نفوذ صاحب المنصب المعين. إن المعلومات حول إجمالي الدين الخارجي، حجم الدين الأصلى وتكلفة خدمات الدين، مصدر القروض ونوعها وتدفقاتها واستخداماتها.. إلخ ضرورية لوضع خطة للتخلص من عبئها. بعد ذلك، فإن الاستفادة من المبادرات الدولية لتخفيف عبء أو إلغاء الديون على الدول الأكثر فقراً والأقل نمواً ترتبط إلى حد كبير، كما ذكرنا، بتوجهات هذه الدول نحو التحول الديمقراطي واحترام حقوق الانسان وحل النزاعات بطريقة سلمية ومحاربة الفقر مما يعني أن استمرار وجود نظام الجبهة القومية سيظل عقبة في سبيل الاستفادة من تلك المبادرات الدولية.

لايمكننا الاتجاه لتنمية حقيقية دون معالجة أمر الجهاز المصرفي وإصلاحه مؤسسات وقيادات وإدارات. لقد أثبت النظام المصرفي الاسلامي بإدارة الجبهة القومية الاسلامية قدرته الفائقة على تحطيم القوى المنتجة وانحيازه التام للطفيليين بصيغه التمويلية المناسبة لنشاطهم من مرابحات ومضاربات. لقد وفرت اتفاقية السلام الشامل إمكانية وجود النظام المصرفي التقليدي إلى جانب النظام المسمى بالاسلامي، وإن قصرت ذلك على الجنوب. ولئن كان وجود نظامين مصرفيين فى إطار بلد واحد واقتصاد واحد تشكل في حد ذاتها معضلة اقتصادية يحب أن يتوفر على حلها الاختصاصيون، إلا أن واجبنا يقتضي النضال من أجل استعادة وجود النظام المصرفي التقليدي في شمال البلاد لتوفير التمويل وفق نظام الفائدة المحددة والذي أثبت، من خلال الانفلات التام والجشع الخرافي للبديل المسمى بالاسلامي، عدالته وموضوعيته وجاذبيته للمنتجين والمستثمرين. يرتبط بمسألة إصلاح النظام المصرفي، إنشاء مصارف الفقراء المتخصصة في التمويل الصغير وفائق الصغر لتمويل الفقراء والأسر المدقعة بشروط ميسرة والتي أثبتت جدواها في التصدي لظاهرة الققر في العديد من البلدان الآسيوية وغيرها.   

في اختصار لايخل، ليست هناك تنمية بلا استثمار. واجب الدولة هو تشجيع الاستثمار واجتذابه وخلق البيئة المناسبة له للعمل وللانتاج وللربح وللاستفادة من أرباحه بأبسط السبل والقواعد والإجراءات. السياسة الوطنية تقتضي أن نعطي المستثمرين الوطنيين الأولوية وأن نوفر لهم كافة الفرص والإمكانات والدعم لاستثمار أموالهم في وطنهم والمساهمة في نهضته وتقدمه. السياسة الحكيمة تقتضي أن نفتح الباب أمام المستثمرين الأجانب أيضاً واضعين في اعتبارنا ضعف رأس المال المحلي، غير أنه من الضروري تماماً توجيه هذه الاستثمارات نحو المواقع التي يعجز القطاع الخاص الوطني عن ارتيادها سواء لكثافة رأس المال المطلوب أو نوعية التقنية والتكنولوجيا الضرورية، فالاقتصاد الوطني لا يحتاج لاستثمارات أجنبية في المخابز والمطاعم ووسائل النقل، بل هذه منافذ للتهريب والتهرب من الالتزامات الجمركية والضريبية.  اجتذاب الاستثمارات الأحنبية بل والوطنية كذلك لا يتم فقط بإصدار القوانين، رغم ضرورة ذلك، وإنما باحترام القوانين وبسيادة القانون فذلك هو الذي يضمن للمستثمر حقوقه في نهاية الأمر، ودولة ديدنها الفساد والرشوة والمحسوبية والطغيان المنفلت لن تجذب إلا الاستثمارات المشبوهة ضد مصالح شعوبها ولصالح الأقلية القابضة على السلطة.

في علاقة بقضية الاستثمار نتعرض لما سمي باتفاقية الحريات الأربع (التنقل، الإقامة، العمل والتملك) بين السودان ومصر والتي هي استمرار للنهج الانتهازي في استثمار العلاقة بين الشعبين و تسخيرها لصالح الأنظمة السياسية. إنها محاولة من النظام لاستغلال العلاقات الأخوية والروابط المتينة بين الشعبين المصري والسوداني لخدمة أغراضه السياسية والآيديولوجية على حساب المصالح الوطنية وبما يهدد المصالح الكبرى للشعبين. هذه الاتفاقية صممت لأغراض استجلاب وإقامة وعمل وتوطين أعداد هائلة من العمالة المصرية في السودان تحت ستار أن مصر تعاني من الكثافة السكانية وضيق الرقعة الزراعية وارتفاع تكلفة استصلاحها، بينما السودان يتميز بقلة الكثافة السكانية واتساع الأراضي الصالحة للزراعة ووعدم الحاجة إلى أو انخفاض تكلفة استصلاحها، ولكن الأهداف الحقيقية للنظام هي:
·        تغيير التركيبة السكانية العرقية للبلاد بحيث يضاف إلى عامل حروب الإبادة العرقية الهادفة لمحو المكون الإفريقي، زيادة ثقل المكون العربي بإضافة أعداد هائلة من المصريين، لترسيخ مفهوم هوية السودان العربية الاسلامية. إنها نفس محاولة النظام السابقة بفتح البلاد واستباحتها ومنح الجنسية للمسلمين من كل حدب وصوب والتي كانت ستاراً لاستجلاب العناصر الأصولية والإرهابية ومنحها القواعد الضرورية للتدريب والتخطيط والانطلاق، ثم تراجع النظام عنها بعد أحداث سبتمبر 2001.
·        الوجود الواسع والقوي للجماعات الاسلامية في مصر يفتح الباب أمام النظام لاستجلاب هؤلاء للسودان بحجة أنهم مصريين، والاستفادة منهم في ترسيخ سلطته وتوطيدها من جانب ومن جانب آخر بتأهيلهم للجهاد ضد بلدهم الأصلي أو أماكن أخرى.
مقابل تلك الفوائد للنظام يتم التنازل عن ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة في السودان والتي هي ملك الشعب السوداني وملك أجياله القادمة.

إن الآمال بتحول السودان إلى دولة نفطية ما هي إلا محض أوهام فلقد انتهى عهد اكتشافات الحقول الضخمة الكفيلة بتحقيق ذلك، ونمط الاكتشافات في السودان يثبت ذلك أيضاً، كما أن تقرير مصير شعب الجنوب بعد خمسة سنوات، في ظل الأوضاع الجذابة للانفصال، سيضع نهاية لهذا الوهم. يبقى أن طريق نهضة السودان مرتبط بالنمو الزراعي الصناعي. يستدعي ذلك استثمار عوائد البترول في الفترة التي تتوفر فيها لتأهيل البنية التحتية للتنمية في هذين القطاعين ومعالجة أسباب إخفاقاتهما في السابق.

في مجال الزراعة لابد، في الفطاع المروي، من إعادة تأهيل وسائل الري من قنوات وطلمبات مع وضع سياسة عادلة ورشيدة لاستخدام الأرض والمياه وتنويع وتحسين التركيبة المحصولية وتوفير مدخلات الانتاج، واحترام دور المنتجين في إدارة المشاريع والاتجاه لسياسات حافزة لتحسين الانتاجية. أما في الزراعة المطرية الألية، فهناك الفضايا الاجثماعية المرتبطة بتوجهات الطبقة الرأسمالية الطفيلية المتوسعة في هذا المجال والعاملة على تدمير البيئة والغطاء النباتي واستباحة الغابات وهناك أيضاً مسألة تخطيط الانتاج التي يجب أن ترتبط أولاً بحاجة السوق المحلية. أما في الزراعة المطرية التقليدية، فلابد من سياسة تهتم بالمنتج الصغير من نواحي توفير التمويل الميسر والبذور المحسنة. مشاكل قطاع الثروة الحيوانية ضاعفها هذا النظام بالتصدير دون مراعاة لتنمية القطيع ذاته، كما تفاقم ذلك باحتكار التصدير لشركة أجنبية وتحويل المصدرين الوطنيين إلى مجرد وكلاء في السوق. لابد من تعديل هذا المسار باستعادة القطاع في نهاية دائرته للأيدي الوطنية القادرة على إدارته، كما يجب الالتفات إلى وسائل تنمية القطيع بتحسين الخدمات البيطرية وسبل مكافحة الأوبئة. ويرتبط بتنمية القطيع اكتشاف موارد جديدة وتطوير قطاع الثروة السمكية.
   
إن فشل سياسة إبدال الواردات في القطاع الصناعي يجب الا يدفعنا مباشرة للاتجاه لسياسة التصنيع للتصدير دون النظر المتأني والمدروس لأسباب فشل تلك السيسة الأولى. إن الظروف العالمية التي أدت لنجاح سياسة التصنيع للتصدير ذات يوم في بلدان النمور الآسيوية ليست متاحة اليوم، ويتقاطع مع ذلك اشتراطات واستحقاقات العولمة ومنظمة التجارة العالمية. إن الاستراتيجية الصناعية للسودان يجب أن تمليها مصالح البلاد وإمكانياتها وطبيعة ونوعية مواردها الأولية. ضرورة التصنيع تمليها أن تصدير المواد الخام والأولية دون قيمة مضافة هو جانب رئيسي من جوانب إهدار الثروة القومية، ولذا فلابد للتنمية الصناعية في السودان أن تقوم على أساس الموارد والمواد الزراعية والمعدنية المتوفرة.      

في توجهنا لإطلاق التنمية في المجالين الزراعي، شاملاً قطاع الثروة الحيوانية، والصناعي، نركز على مفهوم التوازن بإعطاء الأقاليم المهمشة والأقل نمواً الأولوية في قيام وإعادة تأهيل المشاريع. ولابد من ربط التنمية المتوازنة بعوامل تكاملية تهدف لبناء سوق وطنية تتبادل مناطقها وجهاتها المختلفة السلع والمنتجات وتصبح سوقاً لبعضها البعض. إن الوحدة الوطنية، مثلها مثل غيرها من موجبات التوحد، لا تقوم على العوامل التاريخية والثقافية، والتي أصبحت مصدراً النزاع لا الوحدة في السودان، وإنما على المصالح المشتركة والنفع المتبادل.

في قطاع النقل والمواصلات، لابد من إعادة تأهيل السكك الحديدية والنقل النهري وإعطائهما الأولوية. إن التوسع في شبكة الطرق الوطنية ضروري لربط أصقاع البلاد بعضها ببعض ولتسهيل تنقل المواطنين والسلع، ولكنه ليس الحل لمشكلة النقل فهو إن بدى أرخص من ناحية التكلفة الرأسمالية، إلا أنه أعلى تكلفة من ناحية المصاريف التشغيلية وهو الأغلى على المدى الطويل. إن العوامل التي أدت لتحطيم مؤسسات ووسائل راسخة كالسكك الحديدية والنقل النهري كانت أسباباً سياسية في المقام الأول مرتبطة بأحقاد الطاغية نميري على جماهير العمال وحركتهم النقابية، منقاداً في ذلك للدوافع الانتهازية للرأسمالية التجارية التي أرادت الاستئثار بذلك القطاع كمصدر للربح السريع.

 *الورقة المتوفرة هي مقدمة للنسخة المجازة في المؤتمر السابق لمؤتمر أبريل 2011 ، على أن يتم توفير الورقة الجديدة في هذه المدونة في أقرب وقت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق