الجمعة، 28 مارس 2014

دارفور : أتون الجحيم على وجه البسيطة

                                                 
        


                            دارفور: أتون الجحيم على وجه البسيطة

في إفادته لمجلس الأمن عن نتائج تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور، ذكر السيد كوفي أنان، الأمين العام للأمم الممتحدة، أن التقرير "يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن السنتين الأخيرتين لم تكونا لأخوتنا في الإنسانية في دارفور شيئاً أقل من الجحيم على الأرض". وحقاً، لم يكن ما وجدته كل تقارير منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ووسائل الإعلام الدولية ووصفته بأهواله، سوى الجحيم. لقد احترقت أعين الملايين من مشاهدي برنامج بانوراما الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية وهم يتابعون، لا إحصاءات مجردة، بل شهادات حية يقدمها بشر من لحم ودم، يتحدثون إليهم من قاع ذلك السعير. بشر مثل خديجة، تلك المرأة الدارفورية، التي أصبحت تجسيداً للشقاء الإنساني والتعاسة والحزن، واقفة بجانب ركام قريتها المدمرة، متمنية لو كانت هي نفسها قد لقت حتفها، وهي تصف المشهد الذي خلفه الجنجويد وراءهم، قائلة:

"وجدت جثة طفلى ذا الأربعة سنوات ملقاة بجانب المستشفى فحملتها وذهبت أبحث عن طفلي الآخرين، فوجدتهما مقتولين داخل المدرسة، حيث كانا يختبئان في ركن غرفة الدرس. كانت هناك أعداد يصعب حصرها من جثث الأطفال القتلى ملقاة أمام المدرسة.  فليغفر لي الله، ليتني لو كنت قد مت."

تلك الشهادة التي تفطر القلوب ليست سوى نسخة طبق الأصل من مئات الشهادات الأخرى التي جمعتها منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمات أخرى لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للتحقيق في دارفور وصحفيون مستقلون. لقد اتفقوا جميعاً في وصف نمط للإعتداءات المنظمة على المدنيين في دارفور، يقتل فيها الرجال، وتغتصب النساء بانتظام ويطرد السكان المحليون من مساكنهم بالقوة ثم تحرق تلك المساكن وكذلك ممتلكاتهم من الأبقار والمحاصيل أو تنهب. لقد تم تحديد المهاجمين بأنهم، بالإضافة إلى الجيش السوداني والقوات الجوية، ميليشيات عربية مدعومة حكومياً. كما أن الضحايا هم باستمرار من قبائل الفور والمساليت والزغاوة والداجو وبعض القبائل الأفريقية الصغرى الأخرى، والذين تطلق عليهم القبائل العربية في دارفور إسم "الزرقة". لقد دخل مصطلح "الزرقة" هذا إلى الاستعمال في الثمانينات من القرن المنصرم مشحوناً بالتحيز العنصري إذ يشير إلى أناس ذوي قيمة إنسانية أدني، من أصول غير عربية، أجلاف، شبه وثنيين لا يستحقون سوى الاستعباد والاسترقاق.

وبالرغم من ذلك، فإن الحكومة السودانية وأجهزة الإعلام العربية ومشائخ إسلاميين كبار وأيضاً كثير من المتعلمين والمثقفين السودانيين، ظلوا يتعاملون مع ذلك الجحيم الأرضي بدرجات متفاوتة من الإنكار والتجاهل. لقد تعامل الشماليون بصفة عامة، وباستثناء قلة منهم، مع الأخبار الملتهبة من دارفور إما بلامبالاة قاسية أو بإنكار فظ، ولكن الأكثر مدعاة للقلق هو أن البعض منهم تعامل معها بعنصرية عارية. ظل أصحاب النوايا الطيبة من الشماليين في قلق وجزع يتسائلون عما إذا كانت تلك الأخبار صادقة، ولكن كالعادة، فإن أغلبيتهم على استعداد لتصديق الرواية الرسمية للأحداث، خاصة عندما تردهم عبر طرف ثالث، كوسائل الإعلام العربية.

كثيراً ما تثير وسائل الإعلام السودانية والعربية وكذلك مواقع الإنترنت الإسلامية أسئلة على شاكلة "لم كل هذا التركيز على دارفور من قبل وسائل الإعلام والحكومات الغربية؟" و "لمصلحة من ولأجندة من؟" و "ربما هناك ثروات معدنية طائلة يعرفها الغرب" وغيرها، مركزة على أن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية وليس الأسباب الانسانية هي الدافع الرئيسي لذلك التحرك. إن القاسم المشترك بين تلك الجهات يتمثل في:

·       ليس هناك إبادة جماعية أو تطهير عرقي في دارفور وكذلك ليس هناك إغتصاب بالجملة للنساء.
·       الجنجويد ليسوا حكراً على القبائل العربية، كما أنه في الأصل لا توجد قبائل عربية فى دارفور، حيث أنهم جميعاً يتشابهون ولهم ذات السحنة والملامح. وليس هناك صلة أو تنسيق بين قوات الحكومة والجنجويد.
·       هناك مشكلة محلية هي نزاع قبلي حول الموارد الشحيحة، تم تضخيمه بواسطة الولايات المتحدة والقوى الغربية في مؤامرة لتشويه الإسلام وتقسيم السودان وتحويل أنظار العالم عن خزيانها في العراق والمناطق الفلسطينية المحتلة.

إن تلك مؤشرات إلى وجود خطأ جذري فظيع متمكن من أذهان أولئك الناس وتلك الجهات. إنهم ذاهلون تماما عن مواطني دارفور وليس في ذهنهم أو اهتماماتهم أو معادلاتهم مكان لمعاناتهم الإنسانية. وبتعبيرهم عن الاغتياظ والحنق لأن تركيز الضوء على مأساة أهل دارفور قد صرف انتباه العالم عن مأساة الفلسطينيين والعراقيين، فإنما يقولون أن القيمة الإنسانية لهؤلاء الأخيرين أغلى من القيمة الانسانية للسابقين. وفي محاولتهم خلق أسباب أخرى للاهتمام الدولى بمعاناة أهل دارفور، غير الأسباب الحقيقية المتمثلة في غضب الرأي العام على مرتكبي تلك الفظائع وتعاطفه الانساني مع الضحايا، فإن مروجي تلك المقولات إنما يقولون ببساطة أن ما يهمهم في دارفور هو الأرض وليس البشر. سنعود إلى مناقشة أمثلة لهذه الآراء فيما بعد، ولكن فلنناقش أولاً الأسباب العرقية للصراع.

التركيبة الإثنية لدارفور:
لقد تشكلت هوية أهل دارفور عبر عملية شبيهة بعملية تشكل الهوية في الشمال النيلي. يقطن دارفور عدد من المجموعات الإثنية، معظمها أفارقة سود مسلمون، بعضها لازالت تحتفظ بلغاتها الأفريقية الأصلية ولكنها تستخدم اللغة العربية كلغة تخاطب بينها، والبعض الآخر فقد لغته الأصلية منذ زمن طويل وأصبح يتحدث العربية كلغة أم منذ قرون كما اتخذ العروبة هوية له. ولكن هناك انقسام رئيسي بين المجموعات الأفريقية السوداء، أو ما يسمى بالزرقة، من جانب، وبصرف النظر عما إذا كانوا يتحدثون العربية كلغة أم أو لا، وبين القبائل العربية، من الجانب الآخر. وتتشكل الزرقة من قبائل الفورو المساليت، الزغاوة، السلامات، الميدوب والبرتي. بينما تشمل القبائل العربية البقارة، الرزيقات، الزيادية، المعاليا والبني هلبا.

عملية التعريب في دارفور:
منذ أن أصدر ملك الفونج السلطان بادي الثالث، في القرن السادس عشر الميلادي،  مرسوماً يعلنه هو وجماعته "منحدرين من العرب، وبالتحديد من سلالة الأمويين"، عرفت كل المجموعات الإثنية في هذه المنطقة أن إدعاء هوية عربية إسلامية سيرتقي بها إلى دوائر القوة وامتيازاتها. ونتيجة لذلك فإن جميع المجموعات الإثنية تقريباً في شمال السودان الجغرافي تزعم لها شجرة نسب عربية. وينطبق هذا على نوبة الشمال وبعض قبائل النوبا خاصة في الجزء الشرقي من جبال النوبا والبجة في شرق السودان والحوازمة في كردفان وكذلك الفور في دارفور، إذ أن لكثير من قبائل الزرقة ذاتها مزاعم في أصول عربية. وكما يذكر أحد الباحثين في الأنثروبولوجيا من أبناء المنطقة "إن دعاوى هذه المجموعات بأنهم من نسل عربي غالباً ما تكون مدعومة بشجرات نسب مكتوبة ترجعهم إلى النبي أو بعض الصحابة المقربين، وبعض هذه الأشجار مدموغ بأختام التوثيق وتم شراؤه من المملكة العربية السعودية حيث تعمل بعض المكاتب في هذه التجارة." وهذا يشير إلى أن عملية التعريب التي اكتملت في الشمال النيلي (أو السياسي) لا زالت مستمرة في الشمال الجغرافي، ولكن التطور الجديد هنا هو أن الشمال النيلي، والمنفي هو ذاته إلى هامش الهوية العربية، أصبح مركزاً للهوية لدارفور وبقية المناطق، وأصبحت له الأن سلطة الاعتراف أوعدم الاعتراف بادعاءات الهامش.

إعادة صياغة الهوية:
لقد قطعت الأحداث الأخيرة في دارفور تواصل تلك العملية، وأجبرت المركز وكذلك الأطراف على إعادة النظر في قناعاتهم السابقة، فبعض مجموعات الزرقة والتي كانت  تزعم أن لها نسباً عربياً بدأت تعيد النظر في ذلك الآن. وكما يقول ذلك الباحث، فوسط تلك المجموعات "استطاعت الأفريقانية أخيرا أن تخلف اللغة والإسلام ونفوذ الثقافة العربية كعامل حاسم في تحديد الهوية. بالنسبة لهم فإن الأفريقانية تعني الانتماء التاريخي للأرض وكذلك الفخر بسواد بشرتهمً، ولكن فوق كل ذلك فإنها تعني التميز  عن أعدائهم الجدد العرب."

لقد أدركت تلك المجموعات بأنها لم يسمح لها أن تكون المجموعة التي أرادت أن تكونها، وأن مركز الهوية والتي يطمحون في أن يكونوها لا يعترف بشرعية دعواهم، ولذا فقد شرعت في إعادة صياغة هويتها. لقد ذكرنا من قبل في وثيقة "أزمة الهوية في شمال السودان" أن التوتر بين المركز والأطراف قد يكون كامناً كوميض النار يعمل في صمت في الأوقات الطبيعية وفترات السلام، وحينها تكون مظلة الهوية العربية مستعدة للترحيب بكل المجموعات الاجتماعية التي تزعم الانتماء لها، أما في فترات النزاع العنيف فإن المركز يستخدم أو، كما يحدث في معظم الأحيان، يسئ استخدام سلطته، في منح الاعتراف، إذ أن بوسعه سحب المظلة من ونزع الاعتراف عن أية مجموعات اجتماعية طرفية كلما رأى ذلك ضرورياً. لقد رأى الزرقة أن المركز قد استخدم سلطته في القبول والرفض ضد مصالحهم، وأن الحكومة السودانية، وهي المركز في هذه الحالة، انحازت إلى القبائل العربية في دارفور وسحبت مظلة الاعتراف منهم، الأمر الذي استدعاهم لإعادة النظر في هويتهم. ونتج عن ذلك، كما يذكر ذات الباحث، أن "الأزمة الحالية غيرت تصنيف السكان السابق برمته وانتجت تصنيفاً جديداً يعمل كآيديولوجية لها القول الفصل في التحالف بين مختلف المجموعات الإثنية، وتبعاً لها يمكن تقسيم دارفور الآن بصورة أساسية إلى مجموعتين رئيسيتين، العرب ومعظمهم ولكن ليس كلهم من البدو، ولهم إدعاء قوي بالثقافة والجذور العربية، والأفارقة السود "الزرقة" والذين يعتبرون أنفسهم بصورة أساسية غير عرب وأفارقة في الأصل.

التعليم كعملية اغتراب:
لقد تم استخدام الدولة، وهي التعبير المؤسسي للهوية الشمالية، للتعجيل بعملية التعريب في دارفور وذلك عبر آليتي التنمية والتعليم بصورة رئيسية. لقد تم تهميش دارفور في التنمية والخدمات، كغيرها من المناطق في السودان. وكما يوضح "الكتاب الأسود" فإن من بين مليون ونصف طفل في دارفور تمكن فقط 4211 طفل من الجلوس للامتحان النهائي للمرحلة الأولية، وهو عدد كما يذكر واضعو الكتاب "أقل من عدد تاركي المدارس الأولية في محلية واحدة في ولاية الشمالية، ولكن المقارنة تتجاوز المنطق لأن عدد سكان محلية واحدة في دارفور يساوي عدد سكان الولاية الشمالية بأكملها."

ولكن إلمشكلة لا تنحصر فقط في قلة عدد المدارس المزري في دارفور، وإنما تمتد لتشمل مضمون التعليم الذي يقدم لأطفال دارفور، ذلك إن كانوا من القلة المحظوظة التي وجدت طريقها للمدرسة. تقوم الطبقة الحاكمة الشمالية برسم السياسة التعليمية وبتصميم مضمون المناهج وفقاً لرؤيتها، ولذلك فقد اقتصر الهدف التعليمي، بصورة جوهرية، على ترسيخ جوانب الهوية الشمالية كاللغة العربية وأسلوب الحياة في الشمال وتاريخ العرب في السودان وتاريخ وجغرافيا العالمين العربي والإسلامي. لقد ظلت المناهج فقيرة للغاية فيما يتعلق بتاريخ منطقة النوبة القديم قبل الاسلام، بل وإن شواهد هذا التاريخ التي تجذب المارة بجانب المتحف القومي في الخرطوم، كانت تثير حفيظة أولئك العروبيين والاسلاميين المتطرفين والذين يبدأ تاريخ السودان لديهم بدخول العرب لبلاد السودان "أرض السود". لقد بذلوا كل ما في وسعهم لإخفاء ذلك التاريخ كما فعل ذلك المتطرف، عبد الله محمد أحمد، وزير الثقافة والاعلام في نهاية الثمانينات حينما قرر إزالة جميع رموز فترة ما قبل الاسلام من المتحف القومي واستبدالها بأثريات تعكس التاريخ والثقافة الاسلاميين، سابقاً في ذلك متطرفي طالبان. ونتيجة لكل هذا فقد تم ترسيخ تلك النظرة للتاريخ بشكل واضح بين القطاعات غير العربية في السودان، كما في دارفور.

يتجاهل المنهج بصورة تامة تقريبا كل تاريخ وثقافات وديانات ولغات وأساليب حياة الشعوب السودانية الأخرى في الجنوب والغرب والشرق. ويتطور إنعدام الحساسية هذا  تجاه الآخر إلى درجة الإهانة، حين يمجد المنهج تجار الرقيق الشماليين مثل الزبير باشا رحمة والذي يقدم في صفوف التاريخ كبطل وطني. لقد صمم المنهج لإنتاج صنفين من الخريجين، ففي ضفاف الشمال النيلي ينتج المنهج شخصية مفعمة بكونها عربية وبالتالي فهي تتفوق عرقياً وثقافياً على "الآخرين" الذين يشاركونها الوطن، خاصة أولئك الذين تصنفهم كأفارقة سود. ينتج المنهج هنا شخصية واعية بكونها تتربع على قمة الهرمية العرقية وأن بمقدورها ترتيب بقية الأعراق تحتها على ذلك الأساس. أما في المناطق "الأخرى" مثل دارفور وجبال النوبا، فإن المنهج يجبر التلاميذ على قبول دونيتهم للشماليين في كل شئ، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً وحتى في لكناتهم، وينتج شخصيات مغتربة عن نفسها وعن ثقافتها وعن شعبها، تهفو لأن تكون شمالية.

تلك المناهج لاتكتفي بكون الأطفال في المناطق الناطقة بغير العربية لايجدون أنفسهم فيها، وإنما هي، في واقع الأمر، تدفعهم للشعور بالعار من أنفسهم ومن لغاتهم ومن ممارساتهم الثقافية. فحينما تتطرق إلى الحياة السودانية المحلية فإنها تكتفي بالثقافة الشمالية النيلية فقط باعتبارها نموذجاًً ثقافياً راقياً تبدو العادات المحلية الدارفورية حياله  "بدائية ومتخلفة بصورة محرجة". لقد كان منع التلاميذ من التحدث بلغاتهم المحلية في المدارس يمارس كسياسة عامة، وكان التلاميذ الذين يضبطون وهم يستخدمون "الرطانة" عرضة للعقاب، وكانت سبة كافية للتلميذ أنه كانت لديه رطانة ذات يوم، أما كونه مازال محتفظاً برطانته تلك فذلك أمر لا يغتفر ويؤدي، ضمن عواقب أخرى، إلى الإقصاء الفوري من النادي العربي الإسلامي وفقدان الحق في الانتماء.

لقد صمم المنهج ليعمل، بمعاونة الثقافة السائدة والإعلام، على إنتاج نوعين من البشر، مهيمنون ومهيمن عليهم. وكما يذكر أحد الأكاديميين من قادة حركة تحرير السودان الآن، فإنه بنهاية المرحلة الثانوية يكون تلاميذ دارفور قد أوشكوا على الاغتراب التام من ثقافاتهم المحلية، فما أن يحطوا رحالهم في الخرطوم للالتحاق بالتعليم الجامعي حتى تكتمل غربتهم وتنتصب دونيتهم شاهدة عليهم. ومن الآن فصاعداً سينظر هؤلاء إلى أنفسهم بعيون العالم الشمالي "وسيقيّمون أراوحهم بمعايير تبخسها بينما يراقبهم العالم باستمتاع مشوب بالشفقة ولاحتقار" إذا ما جاز لنا استخدام كلمات دو بوا. إن كلمات دوبوا تنطبق أيضاً على عملية التحاق الشماليين بالعالم العربي، والتي هي أيضاً مثال للذات المنْبَتّة.

إن المفارقة المحزنة هي أن الطبقة المتعلمة من أبناء دارفور قد أعادت إنتاج قصة الشماليين مع العالم العربي ولكن على مستوى محلي، باتخاذها الطبقة الحاكمة في الشمال تعبيراً مجسداً لطموحاتهم ومركزاً لهويتهم. لذلك فإن قلة بسيطة من هؤلاء المتعلمين تعود إلى مجتمعاتها في نهاية تعليمهما الجامعي، بينما تقطع الغالبية العظمى صلتها بجذورها وتلهث خلف "الاندماج في الثقافة النيلية السائدة"، حتى أن أحدهم وهو أستاذ جامعي من دارفور تقلد مناصب عدة في النظام الحالي، روى عنه القول " منذ أن التحقت بالحضارة، لم أعد إلى الغرب". على هذا النحو استمرت الطبقة الحاكمة الشمالية في السيطرة، بل واستطاعت استخدام أشخاص متعلمين من هذه المناطق ذاتها لتعزيز سياساتها العنصرية، وما علي الحاج وخليل ابراهيم، والذين تبوءا مناصب عليا في هذا النظام قبل اختلافهما معه، وكلاهما من دارفور ومن قبائل الزرقة، إلا شواهد حية على ذلك، إذ أنهما حشدا مواطنيهما وأهلهما للحرب في الجنوب تحت شعار الجهاد، كما أن الأخير، والذي يتزعم حركة متمردة في دارفور الآن، كان قد شارك بنفسه مقاتلا في ذلك الجهاد.

الكتاب الأسود: لماذا هو "أسود"؟
يتجلى التخريب الذي أحدثه النظام التعليمي في نفسية بعض المتعلمين من دارفور في عنوان هذا الكتاب، إذ أن مؤلفيه، الذين أسموا أنفسهم "الباحثون عن الحقيقة والعدالة"، هم أنفسهم سود البشرة يعانون من الظلامات القائمة على العرق، ولكنهم مع ذلك لا يرون الأكذوبة والظلم الذين جعلا من اللون الأسود رمزاً للسؤ والقذارة والشر والفساد. إنها عنصرية الثقافات "البيضاء" ضد السود في تجلياتها اللغوية، ومن اللافت للانتباه أن أشخاصا على هذا القدر من التعليم والوعي السياسي لم يروا التناقض في استخدامهم لمصطلح يسئ إلى لون بشرتهم. إنهم باستخدامهم للنظام الرمزي للثقافة العربية إنما يثبتون أنهم مازالوا مستعمرين ثقافياً، وأن القوى التي اضطهدتهم مازالت تحتل ذواتهم. وإذ نقول ذلك عن أولئك المتعلمين من دارفور فإننا ندرك أن ما ينطبق عليهم ينطبق أيضاً على استخدام الشماليين للغة العربية بغير تفكر في دلالات نظامها الرمزي، كما تجلى في حديث الشاعر الطيب العباسي، حفيد الزبير باشا، المفتون ببطولات جده، معتذراً عن سواد بشرته لفتاة بيضاء في مصر صدته بقسوة مستنكرة إعجابه بها، بقوله في قصيدة مغناة ذائعة الصيت:

فلماذا أراك ثائرة
وعلام السباب يضطرد
ألأن السواد يغمرني
ليس لي فيه يافتاة يد
سوف أطوي الجراح في كبدي
غائرات مالها عدد

الفكرة خلف الجنجويد:
إن الصاروخ الذي انطلق بمصطلح الجنجويد من الاستخدام الغارق في المحلية في أقاصي دارفور، إلى أروقة الأمم المتحدة وردهات البرلمان الأوروبي والبيت الأبيض، كان وقوده ناس "الزرقة" في دارفور وعذاباتهم القاسية. لقد انشغل البعض بمعنى الكلمة، ولكن المهم هو مضمون "الفكرة" وليس معنى الكلمة. الفكرة خلف الجنجويد هي "الوكالة" وفي هذه "الوكالة" قد يتبدل الضحايا المستهدفون، وقد يتغير القتلة المأجورون، ولكن الفكرة نفسها تظل ثابتة. والثابت الآخر في هذه الوكالة هو هوية المستهدف، فلابد أن تكون غير عربية، أفريقية سوداء.

إن الجنجويد هم العملاء المأجورون تجاه الضحايا في دارفور، أما بالنسبة للضحايا في الجنوب، فقد كان المراحيل هم العملاء المأجورون. إن الفكرة ليست جديدة في ذهن الطبقة الحاكمة الشمالية، بل قديمة ومركزية حتى أنهم ابتدعوا لها عبارة محددة في قاموس المصطلحات العنصرية الشائعة وسط النخبة السياسية الشمالية ضد الأفارقة السود السودانيين وهي "إقتل العبد بالعبد". حينما وضعت تلك المقولة موضع التطبيق لأول مرة كان العبد الأول فيها هو الجنوبيين، بينما كان العبد الثاني هو أهل دارفور وجبال النوبة، الذين شكلوا الكتلة الأكبر في كتائب الجيش "الوطني" التي أرسلت للجنوب لقتال المتمردين. ثم أعيد إحياء الفكرة مرة أخرى في منتصف الثمانينات، حينما فاقت تكلفة الحرب موارد الحكومة، وحينما رأت الحكومة قواتها خائرة تتلقى الهزيمة إثر الهزيمة وقوات التمردين يشتد ساعدها وتحرز نصرأ إثر نصر. لقد كان المجلس العسكري الانتقالي بعد انتفاضة أبريل 1985 بقيادة سوار الدهب هو صاحب الفضل هذه المرة في إعادة إحياء الفكرة، ولكن الصادق المهدي، رئيس الوزراء المنتخب بعد سنة من ذلك التاريخ، كان هو المسئول عن وضعها موضع التنفيذ بصورة كاملة.

لقد كان العملاء المأجورون في ذلك الوقت هم المراحيل، والذين تم تجنيدهم من قبائل البقارة في كردفان ودارفور لخوض حرب رخيصة الثمن لصالح الطبقة الحاكمة ولتوفير منطقة عازلة ضد المتمردين. بما أن أفراد هذا الجيش القبلي لم يكونوا يتلقون مرتبات من الدولة، وبما أن أسلحتهم الصغيرة كانت أضعف من أن تستطيع مقارعة ترسانات الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبما أنه لم يكن لديهم دافع للمخاطرة بحياتهم في سبيل الطبقة الحاكمة التي كانت تضطهدهم أيضا وتهمشهم وتسميهم بالغرابة، واضعة إياهم مباشرة فوق جيرانهم الجنوبيين في أسفل السلم العرقي، فقد كان منطقياً تماماً أن يستخدم المراحيل أسلحتهم التي حصلوا عليها حديثاً، ليس لمهاجمة مواقع الجيش الشعبي، وإنما لتحقيق أجندتهم القبلية التوسعية، فقاموا بمهاجمة جيرانهم المدنيين من الدينكا وقتلوهم ونهبوا ماشيتهم واستولوا على أرضهم واسترقوهم. وفي عام 1987، ارتكب المراحيل مجزرة شنيعة في الضعين ضد جيرانهم الدينكا، حيث قتلوا منهم حوالي 1500 شخص وحرقوا بعضهم أحياء في عربات القطار التي لجأ إليها الدينكا فراراً من مهاجميهم، بل وقتل بعضهم داخل مركز الشرطة تحت نظر وبصر القانون، في أبلغ وأفصح شهادة عن الحصانة المطلقة التي كان يتمتع بها المهاجمون. وبدلاً من التحقيق في الأمر وتقديم المسئولين عنه للعدالة، قامت حكومة الصادق المهدي بحملة تضليل ضخمة لتطويق أخبار المجزرة وكتمانها عن العالم الخارجي. وحينما تجرأ أستاذان جامعيان، هما سليمان بلدو وعشاري محمود، على كسر حصار الحكومة على الأخبار وفضحا المجزرة في كتابهما "مجزرة الضعين"، تم قمعهما وتهديدهما بواسطة أجهزة الأمن الحكومية وهاجمهما الصادق المهدي شخصياً في خطبة له في الجمعية التأسيسية، بينما ظل مرتكبو تلك الجريمة بعيدين عن أيدي العدالة حتى الآن. لقد كانت تلك، كما وصفها أحد الكتاب السودانيين، واحدة من أبشع حالات العنصرية المؤسسية.  

لم يكن من قبيل الصدف أنه في نفس السنة، 1987 ، قامت حكومة الصادق المهدي بمباركة تحالف جديد نشأ في دارفور تحت اسم "التجمع العربي". زار وفد من هذا التجمع، والذي ضم 27 قبيلة، الخرطوم والتقى بالصادق المهدي لكسب تأييده لأجندتهم. ظاهرياً، كانت خطة التجمع العربي، وكما فضلت الحكومة أن تراها، تهدف إلى بناء توازن عربي في دارفور يساند الخرطوم وسياستها في المنطقة. أما أجندة التجمع العربي الحقيقية في دارفور فقد كانت هي تصفية الزرقة وإبادتهم. لقد كان ذلك التجمع العربي هو الحاضنة التي نما في حضنها وترعرع الجنجويد.

لقد استقطبت الحكومة الجنجويد من ذلك التجمع لمقاتلة حركة التمرد الجديدة في المنطقة. وكما كان متوقعا، فقد انتهز التجمع العربي تلك الفرصة الذهبية، والتي يسرت ليس فقط الحصول على السلاح والدعم اللوجستي من الحكومة وإنما أيضا مساندة القوات الجوية بكل جبروتها، وانطلقوا فوراً نحو جيرانهم من قبائل الزرقة لشن حربهم القبلية التوسعية بأهداف تطهير عرقي لا تخطئها العيان. ولكن لسؤ حظ الحكومة هذه المرة، كانت الأقمار الصناعية لها بالمرصاد، فصورت مئات القرى المحروقة،  وأجهضت كل محاولات الحكومة للتكتم على المسألة، وانتشرت صور وأخبار الفظائع ضد المدنيين في دارفور عبر كل أجهزة الاعلام العالمية ومنظمات حقوق الانسان الدولية.

الحرب بين المهمشين:
كيف ولماذا قبلت القبائل العربية في دارفور، وهي نفسها قبائل مهمشة، أن تصبح أداة في يد السلطة لاستخدامها ضد جيرانهم من الزرقة المهمشين مثلهم، بدلاً من أن توجه أنظارها نحو الطبقة الحاكمة في مركز السلطة باعتبارها العدو المشترك؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن، في جانب منها، في نظرية التعويض السايكولوجي في مقابل الفوائد المادية كما أوضحها دوبوا، وفي الجانب الآخر، في الجشع الغريزي المعزز بندرة الموارد وتخلي الحكومة عن مسئولياتها في تلك المناطق. تقوم الطبقة الحاكمة بتهميش المجموعات العربية في دارفور وبحرمانها من نصيبها العادل في الرخاء المادي، ولكنها تعوضها عن ذلك نفسياً وسايكولوجياً بتماهيها معهم كعرب، وكذلك برفضها مزاعم الزرقة بالنسب العربي. وبمساندة الطبقة الحاكمة للمجموعات العربية في النزاع فإنها تمكنهم من جني الفوائد المادية ممثلة في غنائم الحرب. إن فشل السلطة في القيام بمسئوليتها كوسيط نزيه وإنهيار حكم القانون في ظل ندرة الموارد، ما كان من الممكن أن يؤدي إلا إلى إثارة أحط ما في النفس البشرية من نوازع وغرائز، وهي التي أفصحت عن نفسها بأبشع ما يكون في الفظائع التي ارتكبها الجنجويد مدعومين بالجيش الحكومي.

رد الفعل في الشمال
رد فعل الحكومة:
بعد أن تبين لها فشلها في التكتم على الحوادث ومنع تسرب الأخبار إلى أجهزة الإعلام العالمية، اجتهدت الحكومة السودانية لاحتواء التشويه الذي لحق بصورتها. وبالرغم من أن صورتها لم تكن طيبة أصلاً منذ أن استلمت السلطة في يونيو 1989، فقد طرأ عليها بعض التحسن بعد شروعها في مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ونتيجة لتعاونها المدهش مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية في الحرب على الإرهاب. قامت الدبلوماسية السودانية بحملة عارمة وظفت فيها كل قدراتها ومواردها لاحتواء الضرر الناجم عن تعرية الحكومة، واعتمدت في ذلك استراتيجية تقوم على التقليل من عدد الضحايا في دارفور، وتوزيع الفظائع والجرائم على كل أطراف النزاع وليس فقط الحكومة والجنجويد، وتحميل مسئولية الكارثة للمتمردين باعتبارهم الذين بادروا بالقتال، وأخيراً على تصوير القلق والاهتمام العالميين تدخلاً في الشأن السوداني، وفي هذا الجانب الأخير ركزت ماكينة الدعاية الحكومية على المؤامرة الغربية ضد المشروع الحضاري للأمة، والذي ليس هو غير سلطة الجبهة القومية الاسلامية في السودان.

أما في أجهزة الأمم المتحدة، فقد طفقت الحكومة، ملوحة بعقود النفط الضخمة كرشاوى وبتحالفاتها مع الأنظمة الشبيهة لها، تقاتل بضراوة لإجهاض أو تعطيل أو تخفيف أي إدانة أو قرار قد يصدر من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الانسان أو من مجلس الأمن. وبدا وزير الخارجية السابق مصطفى عثمان اسماعيل مزهواً وهو يستعرض نجاحه في تفادي العقوبات. ولكن رغم كل ذلك فقد صدر تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور متهماً الحكومة وميليشيا الجنجويد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، ومتضمناً أسماء 51 شخصاً موصياً بمحاكمتهم لدي محكمة الجنايات الدولية، وهو ما دفع بالوزير السابق إلى تركيز جهده حالياً على تفادي محكمة الجنايات الدولية باستبدالها بمحاكمات مسرحية زائفة داخل السودان. إنها ألاعيب النظام العادية والتي لم تعد تدهش أحداً من أولئك الذين يعرفونه.

أحزاب المعارضة الشمالية:
ولكن الأمر المدهش كان هو رد فعل المؤسسة الشمالية خارج السلطة مثل الأحزاب السياسية المعارضة وممثلي النخبة المثقفة المحافظة الشمالية. لقد لاذت أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وكذلك التجمع الوطني الديمقراطي بالصمت، أو تحدثوا عن الأزمة بأفواه ملأى بالماء. وفي حين حافظ التجمع الوطني الديمقراطي والحزب الاتحادي الديمقراطي على الصمت البليغ، قرر حزب الأمة، والذي يستمد سنده الشعبي الرئيسي من دارفور، أن ينحاز للجناة بدلاً من مواطني دارفور. لم يكن مدهشاً للكثيرين، خاصة أولئك الذين يدركون الدور الذي لعبته حكومة الصادق المهدي في ميلاد التجمع العربي في 1987، أن يقرر حزب الأمة التنسيق مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عام 2003، في تعبير واضح عن الشراكة في الجرم، فقد قام حزب الأمة بتخطيط ورسم السياسة عندما كان في السلطة حتي 1989 بينما تولى جنح الجبهة القومية الإسلامية "حزب المؤتمر الوطني" الذي خلفه في السلطة تنفيذها. لقد أكد الحزبان في بيانهما أنهما يتقاسمان "الرؤية المشتركة والمسئولية" لحل المشكلة، فلا عجب إذاً أن كانت نقطة الانطلاق للحل الذي اتفقا عليه هي "شن عمل عسكري لهزيمة التمرد"، أما تحليلهما للأزمة فمعروف سلفاً، إنها ليست سوى نزاع قبلي محلي حول الموارد وبقية الرواية. لقد حمّل بيانهما المشترك المسئولية عن الأزمة لكائن من كان ما عدا المؤسسة الحاكمة الشمالية، إذ يقول:

"إن تحول أزمة دارفور من صراع تقليدي حول الموارد ونزاع قبلي، إلى تمرد واسع يرجع إلى نشؤ عوامل أخرى لم تكن معروفة قبل الأزمة الحالية، مثل تصاعد التوجه القبلي والإقليمي وتزايد أعداد الفاقد التعليمي ونسب العطالة المرتفعة بين الخريجين وثقافة العنف ووفرة السلاح والانطباع العام بأن الحكومة لا تفاوض إلا الجماعات المسلحة ووجود الميليشيات المسلحة والمناورات السياسية وتدخل الجيران والهيئات الدولية في الأزمة."

إن تلك الفقرة تفقأ العين بجرأتها في التنصل من المسئولية، وبسردها لتلك العوامل وكأنما قد خلقها الجن أوهبطت علينا من كوكب آخر. من هو المسئول عن انتشار السلاح في المنطقة؟ من هو الذي خلق الانطباع بأن الحكومة لا تفاوض إلا الجماعات المسلحة؟ من نشر ثقافة العنف في البلاد من أقصاها إلى أقصاها بجعل السودان قبلة للمجاهدين من كل أصقاع العالم الإسلامي؟ كيف يغفل البيان كل تلك الأسئلة في تحليله لأسباب الأزمة؟ إن إشارة البيان المشترك إلى التدخل الدولي والإقليمي في الأزمة ماهي إلا ترديد لدعاية الحكومة اليومية، ولكن إشارته إلى "تصاعد التوجه القبلي والإقليمي" تلفت الانتباه بشكل خاص، ليس فقط لمحاولة الحزبين تفادي المسئولية عنها، وإنما لإن التعبير نفسه يذكرنا بتعبير مماثل هو "المؤامرة العنصرية" والذي ظل يستخدم لوصف المحاولات الانقلابية التي يدبرها عسكريون من غرب السودان، دون العسكريين من الشمال.

ما أخفق البيان المشترك في ذكره هو أن هناك وعياً متزايداً لدى الجماهير السودانية المهمشة بأن النخبة الحاكمة الشمالية بمجملها، وفي مختلف أشكال حكمها للبلاد منذ الاستقلال، سواء عسكرية أم مدنية، علمانية، طائفية أو إسلامية، قد خذلتهم، وأنها خذلتهم لإنها عنصرية في الأساس. إن نمو التوجه القبلي والإقليمي إذن ما هو إلا حصاد ما زرعته المؤسسة الشمالية بيديها، ورد الفعل العنيف لهذه الجماهير يجب أن يفهم في هذا الإطار وعلى ضؤ هذه الحقيقة ليس إلا، ومن يزرع الشوك لا يجني العنب و"التسويهو بإيدك يغلب أجاويدك"  كما نقول.

جلابة الثقافة الشماليين
إن رد فعل أحزاب المعارضة الرئيسية، والذي لا يختلف عن موقف الحكومة، يوضح أن المؤسسة السياسية الشمالية، في الحكومة والمعارضة، تتبنى نفس الرؤية تجاه مواطني دارفور الأفارقة السود. وهذا التوجه يفصح عنه بالصمت غالباً وبالقول أحياناً ممثلو الثقافة السائدة في الشمال، جلابة الثقافة الذين نصبوا أنفسهم حماة للثقافة العربية الإسلامية في السودان. إنهم يؤمنون إيماناً جازماً بعروبتهم وبأن السودان دولة عربية ليس إلا، ويحملون آراءاً إقصائية إلى أبعد مدى عن هوية السودان، ويتحسسون ويتوجسون إلى حد العصابية من أي دعوة لإعادة التفكير في هوية البلاد أو لبناء هوية متعددة الأبعاد للوطن، كما يكنون عداءاً وكراهية شديدين تجاه مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان السياسي للسودان الجديد ولأولئك الشماليين الذين يتماهون أو يتعاطفون مع ذلك المشروع أو يعملون من أجل هوية جامعة لشمال السودان. فيما يلي سنستعرض أمثلة لبعض قمم هذا التوجه:      

الأستاذ الطيب صالح:
الطيب صالح روائي عبقري طبقت شهرته الآفاق، ورغم أنه ليس شخصية سياسية بل ويبدي امتعاضه الواضح من السياسيين، فإن ثورات غضبه الإبداعي تجاه حكومة الجبهة القومية الاسلامية من حين لآخر، والتي فجرها في مقالات قصيرة قوية تم تداولها بصورة واسعة وظل صداها يتردد لفترة طويلة بعد نشرها، كانت مثار إعجاب أغلبية المتعلمين السودانيين. ولكن كثير من قرائه يتسائلون عما الذي ظل يدفعه إلى تلك الغضبات المضرية وعما إذا كانت قوتها تتناسب مع بشاعة الأحداث في الوقت الذي يسجلها أو يفجرها فيه.

ما زال الناس يتوقعون من الطيب صالح أن يقول شيئاً عن دارفور، مسرح أقسى وأبشع الكوارث الآنسانية كما وصفتها الأمم المتحدة. وحينما منح الطيب صالح مؤخراً جائزة القاهرة للمواهب العظيمة في الرواية، كان الناس ينتظرون منه أن يستخدم المنبر العالي والمناسبة ذات التغطية الاعلامية الواسعة ليتحدث عن دارفور في كلمته الاحتفالية، ولكنه استغل المناسبة ليتحدث عن شئ آخر. لقد استغلها لانتقاد تطبيق الشريعة في السودان، صاباً جام غضبه على أسلاميي السودان لتطرفهم حيال تطبيق الشريعة بينما أراضيهم لا تضم قبراً لصحابي واحد. ورغم قناعتنا بصحة وأهمية ما تطرق إليه، إلا أننا لا نجد تبريراً لغياب مأساة دارفور عن خطابه، وهو الروائي المبدع. لقد أطلق ذلك عدداً من الانتقادات ضده في منابر الحوار السودانية على شبكة الانترنت، وقد نسب العديد من تلك الانتقادات لامبالاته بما يجري في دارفور إلى إحساسه القوي بهويته العربية الذي يحصنه من التعاطف مع الأفارقة السود.

د. خالد المبارك:
حينما يتعلق الأمر بدارفور، فإن الدكتور خالد المبارك يفضل أن يكون حديثه معمماً غير مباشر وفضفاضاً. لقد صنف في إحدى مقالاته "الخواجات"، والمقصود بهم موظفو الاغاثة والمنظمات الطوعية في دارفور إلى صنفين: الأشرار، وهم أولئك  المدفوعين بمصالحهم الذاتية والأجندة الدينية وغير ذلك من المطالبين بإدانة الجناة، والأخيار، الذين يكتفون بطلب العون الغذائي والمال والمعدات، مثل أطباء بلا حدود التي رفض ممثها إدانة حكومة السودان قائلاً أن وظيفته هي إنقاذ الحياة، وكذلك ممثل منظمة أوكسفام والذي قال لمندوب هيئة الإذاعة البريطانية أنه يحتاج إلى ثلاثة أشياء بصورة عاجلة، المال والمعدات والمتطوعين، وأنه لم يدع إلى مهاجمة أو غزو السودان. بالرغم من أن الدكتور خالد يبدو هنا كمدافع عن عمل الخواجات الأخيار، فإنه في واقع الأمر ومن طرف خفي يعزز من فرضية التدخل الغربي في الشأن السوداني، وهي النظرية التي تستخدمها الحكومة السودانية ومناصريها لتحجب بها معاناة أهل دارفور. والمثلب الآخر في تعليق الدكتور المبارك هو أنه يجعل من إدانة حكومة السودان أو من الدعوة لأستخدام أي نوع من الضغوط الدولية عليها معياراً تسقط به المنظمات غير الحكومية مباشرة من زمرة الخواجات الأخيار. لقد أدانت منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش، على سبيل المثال، حكومة السودان للفظائع التي ارتكبتها ضد الزرقة في دارفور وبأفصح ما تكون الإدانة والشجب، وطالبتا بالمحاسبة وبإسقاط الحصانة لمحاكمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية وبالتعويضات للضحايا، فهل يضعهما ذلك في زمرة الخواجات الأشرار؟

وفي مقالة أخرى اتفق الدكتور خالد مع أولئك الذين يرون أن البترول هو السبب في الاهتمام العالمي بما يجري في دارفور، كما ذكر أن تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور وتقرير اللجنة السودانية للتحقيق في دارفور إتفقا في أن انتهاكات واسعة لحقوق الانسان حدثت في دارفور وأن تلك الانتهاكات ارتكبت من قبل جميع أطراف النزاع. يلفت انتباهنا أن الدكتور قد وزع الدكتور المسئولية عن الانتهاكات في دارفور على كل أطراف النزاع دون تسميتها، وأنه قد ساوى بين تقرير اللجنة السودانية واللجنة الدولية للتحقيق في دارفور في هذا الشأن. إن جرائم الاغتصاب الواسع والحرق الشامل للقرى والنهب السافر للماشية ارتكبت بواسطة الحكومة والجنجويد، وهو ما حاول أن يخفيه تقرير اللجنة السودانية من خلال الإبهام والتعميم، بيما يذكر تقرير اللجنة الدولية صراحة "من جميع الروايات التي استمعت لها اللجنة، فإن اللجنة توصلت إلى أن الأغلبية العظمى من الهجمات على المدنيين في القرى قد شنت بواسطة حكومة السودان والجنجويد، بالرغم من أن هناك هجمات شنت بواسطة المتمردين فإن اللجنة لم تجد دليلاً على أن تلك كانت واسعة النطاق أو أنها كانت تستهدف المدنيين بصورة منظمة. لقد كانت حوادث الهجمات من قبل المتمردين في معظمها ضد الآهداف العسكرية وقوات الأمن والشرطة".

كرر الدكتور إشادته بمنظمة أطباء بلا حدود التي تعمل دون تدخل في سياسة الحكومة، ولكنه حينما تحدث عن منظمة العفو الدولية اكتفي بالإشارة إلى أن تقاريرها تشجب الحجر على الحقوق والحريات في (الغرب) تحت ستار محاربة الإرهاب، وأن تلك التقارير انتقدت ماجرى في سجن أبوغريب وغوانتنامو. لقد كان موضوع الحديث هو دارفور، فلماذا تجاهل الدكتور التقارير العديدة لمنظمة العفو الدولية عن دارفور، وأحدها كان مخصصاً بالتحديد للاغتصاب كسلاح يستخدمه الجنجويد في الحرب، واختار الإشارة إلى تقارير المنظمة عن أبوغريب وغوانتنامو؟ لا شك أن للأمر علاقة بهوية الجناة والضحايا، فالضحايا في دارفور من القبائل الأفريقية السوداء "الزرقة" والجناة عرب، لذا وجب السكوت. أما في أبو غريب وغوانتنامو فإن الجناة أمريكان والضحايا عرب، ولذا يجب الصياح. وبما أن الدكتور هو من متشددى العروبة في السودان فلا شك أن اختياراته تنبع من موقفه هذا.  

د. ابراهيم الشوش
يوفر الشوش أفضل مثال لجلابة الثقافة الشماليين، فمن ناقم على نظام الجبهة القومية الإسلامية في مقالاته النارية التي كان ينشرها في صحيفة "الفجر" التي كانت تصدر من لندن، متعرضاً للنظام ورئيسه بأقذع ألوان السباب والهزء، تحول إلى منافح شرس عن ذات النظام وأركانه وآيديولوجيته وكرس نفسه مدافعاً صلداً عن العروبة في السودان وإلى شحنة من العداء السافر ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي اتهمها بأنها "تطارد مع كلاب الصيد وتجري مع الطرائد"، أي أنها تدعم المتمردين في دارفور بينما تستعد لتقاسم السلطة مع الحكومة في الخرطوم. لم يوفر الشوش أحداً لم ينتقده أو يهاجمه لاهتمامه بدارفور، ونقتطف من مقالة له بعنوان "حينما تمطر السماء لبنا وعسلا":

"المطار في الفاشر يستقبل الطائرات من كل نوع، من الجزيرة العربية، من آسيا، من أوروبا وأمريكا، تحمل أطناناً من المواد الغذائية بعضها معلب بالطريقة الأمريكية. لقد اكتشف العالم فجأة أن هناك فجوة غذائية في دارفور ينبغي سدّها وإلا فإن الدنيا ستنتهي. أخبار دارفور في كل مكان، في الإذاعات ومحطات التلفزة الفضائية. الإتحاد الأوروبي الذي كان مختفياً أثناء غزو العراق، ربما متأسفاً على ضياع نصيبه من غنائم الحرب نتيجة عدم مشاركته فيها، يزأر الآن ويكشر عن أنيابه في دارفور. الأمم المتحدة، التي لم تحركها المجازر التي تعرض لها الفلسطينيون والعراقيون، استيقظت في دارفور. ومجلس الأمن المحترم أصدر بياناً شديد اللهحة عبر فيه عن قلقه تجاه الكارثة الانسانية في دارفور مُعلّياً إياها على كل الكوارث الأخري في العالم. كوفي أنان، رجل الأمم المتحدة الهادئ، عبر عن قلقه بارسال بعثة للتحقيق ولكن منسقه للشئون الانسانية في السودان لم يكن بوسعه الانتظار حتى تنتهي البعثة التي أرسلها رئيسه من عملها، وقال علانية وبملء فمه أن هناك تطهيراً عرقياً ضد القبائل الزنجية في دارفور. لقد جاءت الدنيا بأجمعها إلى دارفور ولم تترك أحداً خلفها، الصليب الأحمر مع الهلال الأحمر وكل المنظمات الانسانية تدافعوا في سباق محموم لانقاذ أهل دارفور من الفقر والقصف والتطهير العرقي، وهكذا في غمضة عين وانتباهتها غير الله حال هذا الجزء من العالم من جحيم الفقر إلى جنة النعيم ومن عدم الأهمية إلى الشهرة العالمية."

تلك الفقرة تتضمن كل العناصر التي تكون القاسم المشترك بين العرب ومناصري العروبة في السودان. إنها نفس النظرية التي ناقشناها من قبل، ولكن في أعلى تعبيراتها خشونة وقسوة وفظاظة تبلغ تخوم العنصرية. هذا مثقف سوداني يستنكر أن يهب العالم لإنقاذ حياة أبناء وبنات وأطفال وطنه، ويحسدهم على حال لا يحسد فيها أحد، ويصف شقاءهم في معسكرات اللاجئين والنازحين ب "جنة النعيم"، ويتهم العالم بازدواج المعايير، ولاشك لدينا في ذلك، ولكنه كالجمل "لايرى عوجة رقبته" مصاب بالعمى تجاه التعاطف الانساني، فلا يرى في تعاطفه مع الفلسطينيين والعراقيين واستهجانه التعاطف مع الدارفوريين ازدواجية في معاييره هو نفسه. هذا يثبت بما لايدع مجالاً للشك أن جلابة المثقفين الشماليين هم على استعداد للذهاب لآخر الشوط في تسويق سياسات المؤسسة الشمالية ضد العنصر الأفريقي الأسود في البلاد، وأنهم خواء من أي القدرة على التعامل بطريقة "وطنية" كسودانيين، وأنه ليس بوسعهم إلا أن يكونوا وكلاء لمركز الهوية العربية.

دكتور عبد الله علي ابراهيم:
هذا الأستاذ الجامعي والكاتب والصحفي المعروف مثال لأولئك الذين انتقلوا من الماركسية إلى اعتناق الإسلاموية، والمسافة التى قطعها في تلك الرحلة بمكن قياسها بالبون الشاسع بين كتابه "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" الصادر في 1976 وكتابه "الشريعة والحداثة" الصادر في 2004، وفي هذه ال 28 سنة الفاصلة بين الكتابين تحول من موقع الدفاع الصلد عن التعددية الثقافية واللغوية في السودان إلى داعية غيور للشريعة والعروبة. اختار عبدالله الشفاعة لسياسات المؤسسة الشمالية عبر الطريق الأكاديمي، فكتب مقالاً قصيراً يتقصى فيه تاريخ مصطلح "الجنجويد" إلى جذوره الرومانسية، حيث كان الجنجويد رديفاً لروبن هود، متابعاً المصطلح في سقوطه وترديه من تلك الصورة الشاعرية الجميلة إلى الصعلكة المجردة. وينطلق عبدالله من أطروحته تلك إلى الفصل بين الجنجويد والقبائل العربية بالقول بأنهم مجرد عصابات تجمع قطاع الطرق من كل القبائل، نافياً صلة حكومة السودان بهم أو سيطرتها عليهم. وهو يقول ذلك رغم علمه بأن "النظام الراهن ربما أطلق الجنجويد من حين لآخر ضد الجماعتين المتمردتين في دارفور" كما ذكر.

يأخذ الكاتب إنكار الحكومة سيطرتها على الجنجويد على محمل الجد، بينما الآخرون جميعاً، بما في ذلك منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش واللجنة الدولية للأمم المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر، يؤكدون أن الحكومة السودانية قامت بتسليح الجنجويد وبتنسيق الهجمات معهم. كما يتعامل الكاتب مع مسألة ارتباط الحكومة بالجنجويد كفرضية بحتة، بينما الحقائق الواضحة على أرض الواقع تفقأ العين، وكمثال واحد فقط، فإن تقرير المفوضية الدولية للتحقيق في دارفور يذكر أن "حقيقة أن بعض الهجمات تلقت دعما جويا تعطي مؤشرا واضحا عن الصلة بين الجنجويد وحكومة السودان". تلك هي الحقيقة المرة في دارفور، وذلك هو العالم القبيح الذي يدير عبدالله ظهره له منصرفاً وهارباً إلى عوالمه الخيالية، عوالم الافتراضات والرؤى الشعرية والرومانسية. ماذا سيقول الكاتب الآن بعد شهادة موسى هلال، قائد الجنجويد، المسجلة على الفيديو إلى منظمة هيومان رايتس ووتش، والتي ذكر فيها بالحرف أن الحكومة السودانية وجهت جميع النشاطات العسكرية للميليشيا التي استنفرها وجندها؟

رد الفعل في العالم العربي:
لا يحفل العالم العربي بالأزمة إلا في إطار ما يسميه بالتدخل الأجنبي، ولا يرى فيها إلا كونها جزءاً من مؤامرة ضخمة ضد العالمين العربي والاسلامي، بدأت بأفغانستان ثم العراق والآن السودان ثم تليه سوريا فإيران في الطابور. وتعطي العناوين التالية لبرامج خصصتها محطة تلفزة فضائية واحدة، هي قناة الجزيرة، عن أزمة دارفور في الفترة بين نهاية يوليو ومنتصف سبتمبر 2004 فكرة بسيطة عن ذلك، وهي "دارفور والضغط الدولي على الخرطوم" و"دارفور تفتح الباب واسعاً للتدخل الأجنبي في السودان" و"دارفور بين الدوافع الانسانية ومصالح القوى الكبرى". أما البرنامج الرابع والذي حمل العنوان المحايد "أسباب الأزمة في دارفور"  فقد كان في حقيقة الأمر حملة دعائية صارخة بالنيابة عن الحكومة عبر مقابلة مطولة مع الدكتور محمد سليم العوا السكرتير العام لرابطة علماء المسلمين، وهي هيئة أنشئت حديثاً ونصبت نفسها مرجعية لكل مسلمي العالم سنة كانوا أم شيعة، عرباً أم غير عرب، يرأسها الشيخ يوسف القرضاوي وتضم في عضويتها بعض الإسلاميين السودانيين مثل حسن الترابي وعصام البشير الوزير الحالي للشئون الدينية.

زيارة وفد الرابطة العالمية لعلماء المسلمين لدارفور: الحقيقة الغائبة
شيخ القرضاوي: دارفور والصهيونية

استجابة لدعوة رسمية من حكومة السودان ترأس الشيخ القرضاوي ومعه محمد سليم العوا، وفداً من الرابطة العالمية لعلماء المسلمين لزيارة السودان. وكان الغرض الرئيسي للزيارة كما أعلنه الوفد هو الحصول على المعلومات عما يجري في دارفور مباشرة ومن منبعها، وإنهاء الأزمة التي شوهت صورة الإسلام، ودفع المصالحة بين مسلمي دارفور. وفي ضجة إعلامية كبيرة استقبل الوفد في الخرطوم من رئيس الجمهورية ونائبه الأول آنذاك وعدد من الوزراء والمؤسسة الدينية. وأمّ الشيخ القرضاوي صلاة الجمعة في مسجد الشهداء، حيث أدي كل المسئولين الصلاة خلفه. وفي خطبته في الصلاة التي نقلت حية عبر الإذاعة والتلفزيون الرسميين، اتهم الشيخ القرضاوي الحكومات الغربية بالتآمر ضد الاسلام، والمنظمات غير الحكومية الغربية العاملة في دارفور باستغلال المساعدات الانسانية كقناع للعمل التبشيري الهادف لتنصير مسلمي دارفور كجزء من حربها الدينية ضد الاسلام. وقد ركز أيضا على ضرورة "تقوية المعرفة الدينية لأهل دارفور" ومقابلة احتياجاتهم المادية، كما أهاب بالأطراف المتحاربة أن توقف تلك الحرب والتي أعطت أعداء الأمة الفرصة للتدخل في شئون المسلمين.

بعد ذلك سافر الوفد إلى دارفور حيث قابل ولاة دارفور وغيرهم من المسئولين المحليين وزعماء القبائل، كما زار بعض معسكرات اللاجئين التي تديرها الحكومة. وفي ختام الزيارة أصدر الشيخ بياناً يكرر فيه أن "الصهاينة هم خلف ما يجري في دارفور لخلق القلاقل للسودان وصرف أنظار الأمة عن العراق وفلسطين".

بالرغم من أن هدف الزيارة المعلن كان هو التوصل للحقيقة على الأرض، فإن خطبته يوم الجمعة توضح أن الشيخ القرضاوي كان قد توصل إلى تلك "الحقيقة" قبل أن تطأ قدماه أرض دارفور. لقد أبدى الشيخ في كل تعليقاته، الفارغة من أي تعاطف انساني والمشحونة بالتحيز العرقي، لا مبالاة متناهية تجاه المعاناة الرهيبة لأهل دارفور. لقد بدت تلك المعاناة تفاصيلاً تافهة في خارطة اهتماماته الضخمة والاستراتيجية بالمؤامرة الصهيونية ضد الاسلام، كما كان تزويره للحقيقة في دارفور مذهلاً. أليس مدعاة للتعجب أن الشيخ كان مهتماً تماماً بكون العمل الانساني الذي أنقذ آلاف الأرواح كان بأيدي منظمات غير حكومية مسيحية أكثر من اهتمامه بضياع حياة وأسباب معيشة إخوته المسلمين؟ أليس مدعاة للسخرية ألا يدعوه ذلك لمناداة منظماته الخيرية لمد المساعدة للضحايا في تلك الكارثة الفظيعة بدلاً من دعوته لتقوية المعرفة الاسلامية لأهل دارفور؟ لكأنما الدين أكثر أهمية من الحياة الانسانية، أو كأنما الله قد خلق البشر من أجل الدين وليس الدين من أجل البشر. إن الإجابة على هذه الاسئلة تكمن في الهوية بامتدادها الآيديولوجي، هوية حكومة السودان، هوية الجناة وهوية الضحايا. فالحكومة السودانية والشيخ ينتميان إلى نفس التنظيم الأصلي، تنظيم الإخوان المسلمين، وقد حاول الشيخ من قبل رأب الصدع بين حسن الترابي وأتباعه السابقين الذين أزاحوه، كما إن منظمة الشيخ الجديدة، الرابطة العالمية لعلماء المسلمين، تضم الترابي نفسه ووزير الشئون الدينية في الحكومة.

أولاً، لقد كان الشيخ مهتماً بمحاولات تشويه صورة الاسلام ولكن بما أن الإفصاح عن السبب الحقيقى لذلك التشويه، وهو الحكومة والجنجويد، لم يك ممكناً، فقد كان عليه اختلاق أسباب أخرى من تلك التي يكون العقل العربي على استعداد لتصديقها مثل الصهيونية. وثانياً، إن الجناة في هذه الجرائم الوحشية، حكومة السودان والجنجويد، عرب (على الأقل في نظرتهم لنفسهم) ومسلمون. وتلك حقيقة محرجة وقذيفة مرتدة تجاه افتراض الشيخ الأساسي والذي يؤسس عليه نشاطه اليومي، أي تصوير العرب والمسلمين كضحايا للعدوان الغربي والمسيحي واليهودي. لذا كان عليه إتّباع استراتيجية ذات حدين، الأول هو إنكار أن هناك عرباً في دارفور (سنناقش هذه النقطة فيما بعد)، والثاني هو تزييف أزمة دارفور بجعلها من صنع "المعتدين الحقيقيين" أي القوى الغربية والصهيونية والصليبية، وبحيث تجد مكانها المريح في مشروع الشيخ.

ثالثاً، رغم أن الشيخ اكتشف أن أهالي دارفور مسلمون، إلا أنهم كانوا أفارقة سوداً، ولذا فقد تبنى رأي إخوته الاسلاميين السودانيين تجاه إسلام دارفور، والذي يرى فيه تلوثاً ببعض التقاليد المحلية التي لا تتسق مع الإسلام المتشدد العربي. في هذا الإطار يمكننا فهم مناداة القرضاوي بتقوية المعرفة الإسلامية لأهل دارفور وكذلك تخوفه من اعتنافهم المسيحية. كما يفسر لنا ذلك أيضاً سر عدم تعاطفه مع أهل دارفور وتخوفه من أنهم سيصرفون أنظار العالم عن مآسي العراقيين والفلسطينيين. إن الفلسطينيين والعراقيين هم عرب مثله، يشبهونه في كل شئ، في هيئتهم ورؤيتهم، كما أن هويتهم وإسلامهم ليسا موضع تساؤل عنده، ولذلك فهو يتماهى معهم تماماً ويرى نفسه فيهم. إنهم يمثلون "الذات" بالنسبة له بينما أهل دارفور السود يمثلون له "الآخر". وحينما يتعلق الأمر بالسودان، فإن الشيخ يتماهى مع المؤسسة الحاكمة الشمالية التي تشاركه ايديولوجيته الاسلامية، والتي هي أقرب إليه عرقياً من أهل دارفور السود.

محمد سليم العوا: الخرطوم لم ترتكب خطأ :
في مقابلة تلفزيونية أجريت معه مباشرة عقب عودة وفد الرابطة العالمية لعلماء المسلمين من الخرطوم، قدم محمد سليم العوا دفاعاً مطولاً عن الحكومة السودانية، متبنياً الرواية الرسمية عن الأحداث، ومركزاً بشكل خاص على نفي الاتهامات الخاصة بالأسباب العرقية والإثنية للفظائع والاغتصاب الواسع.

البعد العرقي والإثني:
ينفي العوا تماماً وجود انقسام عرقي بين العرب والأفارقة، ويذكر أنه قبل ذهابه إلى دارفور كان يظن أن الصراع هو بين العرب المسلمين من جهة والأفارقة الوثنيين من الجهة الأخرى، ولكنه اكتشف عند وصوله لدارفور أن الجميع مسلمون، وأنه ليس هناك عرب بل هجين لايمكن وصفه بأنه عربي نقي أو أفريقي صاف، نتج عن ألف سنة من التزاوج بين العرب والأفارقة، و"ليس هناك فرق في الملامح أو اللون أو اللغة بين اهل دارفور فجميعهم متشابهون ويتحدثون هذه العربية القرآنية اللينة الجميلة". ولكن نسبة لأن بعضهم ينسب جذوره إلى قبائل عربية وبعضهم إلى قبائل افريقية، فذلك هو مصدر الضجة حول العرب والأفارقة. تلك هي النظرية التي أسس عليها العوا قضيته في نفي الإبادة الجماعية، إذ طالما أنه لا توجد قبائل عربية في دارفور فإن اتهام الحكومة السودانية بالتآمر مع القبائل العربية لإبادة القبائل الأفريقية في دارفور ينهار من أساسه. ويبقى أن الانقسام في دارفور هو بين البدو الرحل والمزارعين المستقرين وأن النزاع هو حول الموارد ليس إلا.

حجة العوا تلك تفضي بنا إلى أحد أمرين، إما أن الأشياء اختلطت عليه، أو أنه يخلطها عن عمد. إن التصنيف إلى قبائل عربية مقابل قبائل أفريقية في دارفور لم يأت به طرف ثالث خارجي ولكنه صادر من أهل دارفور أنفسهم، إنه تعريفهم هم لأنفسهم وللآخرين. حقيقة الأمر هي أن هناك قبائلاً في دارفور تزعم أنها عربية سواء اتفق معها العوا في ذلك أو لم يتفق، وأن لديها رابطة أو تحالفاً يجمعها اسمه تجمع القبائل العربية في دارفور. إن كونهم لا يشبهون العرب "الخلصاء" في الملامح أو اللون ليست واردة هنا، ولكن الوارد هو أنهم قد صنفوا القبائل "الأخري" بأنهم "الزرقة" وهاجموهم على هذا الأساس، وذلك هو ما يجعل من الهجوم فعلاً مدفوعاً بدوافع عرقية. وبالنسبة لأهل دارفور فهناك قرى عربية وهي التي وجدها تقرير المفوضية الدولية للتحقيق في دارفور في حالة سليمة ولم تمس، وهناك قرى الزرقة والتي وجدها نفس التقرير وقد سويت بالأرض. ولو كان العوا أميناً مع نفسه لكان قد توصل إلى نفس النتيجة التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية وهي أن "الآيدويولوجية الإثنية والعرقية التي تغلغلت في الهجمات في 2003 و 2004 في دارفور قد أصبحت حقيقة أساسية وقاسية".

الاغتصاب ليس في الحقيقة اغتصابا:                    
    
أكد العوا عدم وجود أي حالات اغتصاب قائلاً أن القضية برمتها ليست سوى مشكلة لغوية تعود إلى الفهم الخاطئ لمنظمات حقوق الانسان وخلطها بين كلمة "غصب" والتي تعني طرد شخص من بيته بالقوة، وكلمة "اغتصاب"، داعماًً ذلك القول بأنه كان يتحدث إلى إمرأة عجوز في مخيم للنازحين فقالت له "لقد غصبونا" تعني أنهم "طردونا من بيوتنا" وهي كلمة قريبة في النطق من "اغتصبونا"، كما قال.

ويدعم العوا حجته تلك بما وصفه "بشهادات من أشخاص ذوي مصداقية"، ومن أكثر مصداقية من نائب والي دارفور الورع، وأحد قضاة دارفور، ثم رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف وهو رئيس اللجنة السودانية للتحقيق والتي عينتها الحكومة للتحقيق في الادعاءات بالانتهاكات في دارفور. إن شهود العوا يذكروننا بالمثل المشهور "الكلب شاهدو ضنبو".

 شاهد العوا الأول، نائب والي دارفور، الذي كاد أن ينفجر غضباً وفقد القدرة على الكلام حينما ذكرت كلمة "الاغتصاب"، يرى أنه لم يحدث اغتصاب في دارفور لأن أهل دارفور، ببساطة، يستحيل عليهم ارتكاب الزنا. أما شاهده الثاني فقد روى قصة عن أن المتمردين في دارفور في سعيهم لدمغ الحكومة بالاغتصاب قاموا بتجنيد عاهرات وساقطين لتمثيل فعل الاغتصاب في فيلم إباحي يوزع لوسائل الإعلام الدولية كدليل على الاغتصاب، وأنه قد تم إلقاء القبض على المجموعة وتقديمها للمحاكمة حيث أدلت باعترافات كاملة. بصرف النظر عن تناقض هذه الشهادة مع ذلك المجتمع الفاضل لنائب الوالي حيث لايمكن لأحد من رعيته من حيث المبدأ ممارسة الزنا، فإن القصة قد تم دحضها تماماً من قبل منظمة العفو الدولية التي قابل مندوبها النسوة المعنيات وذكرن له كيف أجبرن تحت التعذيب على الاعتراف بأشياء لم يفعلنها وأنهن ذكرن ذلك للقاضي في المحكمة فأمر بإعادتهن لجهاز الأمن الإيجابي، وتم نشر ذلك كله بالتفصيل في تقرير للمنظمة بعنوان "دارفور السودان: لا أحد نشتكي له، القهر للضحايا، والحصانة للجناة".

أما الشهادة الثاثة فكانت من رئيس القضاء الأسبق رئيس اللجنة السودانية للتحقيق في دارفور، دفع الله الحاج يوسف، وهو أحد الإسلاميين السودانيين، والذي ذكر للعوا  أنه توقع أن نساء دارفور ربما لن يتمكّن من الحديث عن موضوع حساس كهذا للجنته مباشرة فلذا، وحتى يقطع الشك باليقين، فقد استعان بنساء ذوات خبرة قضائية وطبية لإجراء المقابلات، وأنهن ذهبن إلى معسكرات النازحين وقابلن النساء ولم يجدن حادثة اغتصاب واحدة. إذا لم كانت خبيرات رئيس القضاء الأسبق لم يخطئن الطريق إلى المعسكرات، فلابد أن فجوة المصداقية بينهن وبين النساء الدارفوريات كانت من الاتساع بحيث جعلت الحديث إليهن بلا جدوى، وإلا فما الذي جعل نساء كحواء وكليمة يواجهن كاميرات هيئة الإذاعة البريطانية ويتحدثن عن مصيبتهن ويصفن بالتفصيل كيف تم اغتصابهن، ويمنع نساء أخريات من الحديث إلى لجنة التحقيق السودانية أو نسائها المعينات؟

وإذ يطمئن إلى أنه قد أثبت قضيته، يخلص العوا إلى أن اتهامات الاغتصاب قد اختلقت للتشهير بالحكومة والشعب السودانيين ولتبرير التدخل الأجنبي في البلد وأن حكومة السودان بريئة وأن كل الاتهامات ضدها زائفة. إن السبب في استهداف دارفور، كما يراه، هو أنها غنية بخام الحديد واليورانيوم والبترول، وأنها بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ولذا فإن مسلمي دارفور الموحدين يمثلون خطراً على الغرب، وأن ما يجري في فلسطين ودارفور هو جزء من المؤامرة فالأعداء الصهاينة يعملون في دارفور.

ذلك الصوت هو صوت ممثل المركز يدافع عن وكلائه. في هذا الدفاع فإن الاعتبارات الاستراتيجية للمركز تحجب المأساة الإنسانية وما يهم المركز هو الأرض وليس البشر، وهو الثروة وليست الأرواح، وفي هذه الرؤية يُختزل السودان برمته إلى جسر يحمل المركز إلى قلب القارة المظلمة وتختزل دارفور إلى بوابة في نهاية ذلك الجسر، وتُحجّم الحكومة ذاتها إلى حراس يجلسون عند البوابة.

الخلاصة:
هذه محاولة للتنقيب عن الجذور الأكثر عمقاً للحرب في السودان. إننا على قناعة بأن أسباب الحرب الأهلية في السودان تنبثق جذرياً من مكمن الهوية العرقية. نعم، للحرب أسبابها السياسية، والاقتصادية والتنموية، ولكن جذورها الأعمق تظل سايكولوجية. إن السبب الأعمق جذراً، والمسكوت عنه، هو الهوية ومكوناتها العرقية والثقافية، ولذلك لم يك اعتباطاً ولا صدفة أن أصبحت الهوية هي الخيط الناظم لمجموعتي النزاع. إن محاولة تصوير الصراع بأنه اقتصادي بحت بين الرعاة البدو الرحل والمزارعين المستقرين تتجاهل الإرث الثقافي لنمط الحياة البدوية الرعوية، وهو الإرث المشبع بالنزعة القتالية العدوانية الممجدة للغزو والسبي والنهب والاستباحة والضرورية من أجل التوسع المستمر في رقعة الأراضي التي يترحلون فيها دون قيود. وكما ينظر البدو الرحل إلى أنفسهم كمقاتلين أشاوس وسادة أحرار، فإنهم ينظرون بقدر لا متناه من احتقار لحياة الاستقرار والدعة عند المزارعين والتي يرون فيها حياة ومهنة لا تليق إلا بالعبيد. أما الذين يحاولون قصر الأزمة على رغبة النظام في بناء حزام عربي إسلامي في دارفور تمهيداً لتوسعه غرباً، فإنهم يتجاهلون ما كشفت عنه الأزمة في ثناياها عن الوجه العنصري لتيار الاسلام السياسي، وعن تصنيفه لأخوة الدين على أساس عرقي يتربع على قمة هرمه العرب الخلصاء في فلسطين والعراق وما جاورها، ويقبع في أسفله الزرقة في دارفور الذين لا يجوز أن تصرف تأوهات عذابهم وصرخات شقائهم ولا نواح ثكالاهم وأيتامهم أنظار العالم عن مؤامرات الصهيونية والغرب على الأمة وعن فضائحهما في أبو غريب وغوانتنامو.
    
هناك الكثيرون، ومن بينهم ثوار دارفور أنفسهم، ممن تحدثوا عن سياسات التهميش كسبب للحرب، وذلك صحيح إلى حد معين. ولكن السؤال الذي يتفرع من ذلك سيكون عن السبب في سياسات التهميش نفسها. صحيح تماماً أن جميع مناطق السودان، ربما باستثناء الخرطوم وبعض مناطق الجزيرة، هي في درجة ما من درجات التهميش في التنمية باختلافات نسبية بينها، ولكن ليس من الصحيح القول بأن أسباب التهميش هي نفس الأسباب في كل المناطق. وكمثال فإن منطقة الشمالية، مسقط رأس الطبقة الحاكمة، مهمشة، ولكنها ليست مهمشة لنفس أسباب تهميش مناطق الجنوب والغرب والشرق. إنها مهمشة لأن معظم سكانها نزحوا إلى وسط السودان والخرطوم والجزيرة وكونوا الطبقة التجارية في البلاد كلها ومن ثم احتل أبناؤها مقاعد السلطة في الخرطوم. بمعني آخر، في حين أن منطقة الشمالية مهمشة فيما يتعلق بفقدان البنية الأساسية والصناعة، فإن أهل المنطقة ذاتها ليسوا مهمشين، تبعاً للمثل الشهير "الفي إيدو القلم ما بكتب نفسو شقي". لقد ظل الذين بقوا في المنطقة، ومعظمهم من كبار السن، يدعمون بالتحويلات النقدية من أبنائهم وبناتهم في وسط السودان قبل زمان أطول بكثير من بداية هجرة السودانيين لدول الخليج. إن هناك عاملاً عرقياً يعزز من أسباب التهميش في جنوب وغرب وشرق السودان، وهذا العامل غير موجود في الأسباب التي قادت إلى التهميش في شمال السودان. وتحكى رواية أنه في بداية 1969 في الفترة الديمقراطية الثانية في السودان، تم تشييد مستشفى جديد على طراز المباني الجاهزة في الحوش في وسط السودان، و كان الناس يتندرون وهم يشيرون إلى إسم "جوبا" المكتوب على أغلفة المواد التي كانت تركب منها المستشفى. لقد كانت المستشفى مهداة من جهة ما خارج السودان لمدينة جوبا ولكن وزير المالية حينها وكان هو النائب عن دائرة الحوش الانتخابية في الجمعية التأسيسية اختطف المستشفى وحولها إلى دائرته. فهل يمكن أن يكون هناك تفسير لذلك غير القيمة العرقية للناس؟ إن جذور الحرب تفصح عن نفسها في كلمات "حكمة" تلك السيدة الدارفورية التي قالت لهيلاري أندرسون أنها سمعت مهاجميها يقولون "السود عبيد، السود أغبياء، إقبضوا عليهم أحياء، قيدوهم، وخذوهم معكم".

إن القسوة التي تميزت بها الطبقة الحاكمة الشمالية في قمع المكون الأسود للبلد، ليست إلا انعكاساً لرغبة الشماليين الجارفة في قتل المكون الأسود في ذواتهم. وكما ذكرنا سابقاً، فإن الأغلبية العظمى من النخبة الشمالية تؤمن أنها متحدرة من أب عربي وأم أفريقية، ولكنها تتماهى مع الأب وتقصي الأم عن وعيها. ومثل الشاعر الجاهلي الكلاسيكي البطولي عنترة فإن الشماليين يخجلون من أمهاتهم ويرونها بعيونه، تجسيداً للقبح، ضبعة، بساقين كساقي النعامة وشعر كحب الفلفل الأسود. إن اضطهاد الجنوبيين والنوبة والأنقسنا والدارفوريين ما هو إلا تعبير خارجي عن القمع الداخلي المستمر للأم في داخل الذات الشمالية. لقد ذكرنا من قبل في ورقة "أزمة الهوية في شمال السودان" أنه "يمكن لمشكلة الحرب في الجنوب أن تحل عن طريق انفصال الجنوب عن الشمال. ربما يكون في ذلك حل لمشكلة الجنوب مع الشمال، ولكنه لن يحل أزمة الهوية الشمالية. ومن الواضح أن أزمة الهوية في الشمال قد وصلت إلى قمتها، وبدأ التوازن يختل من جديد. وقد طرحت التساؤلات حول الهوية وعلي الشماليين أن يختاروا : أما أن يتشبثوا بالهامش، أو يخلقوا مركزا خاصا بهم". لذلك فإننا نطرح هذه الدعوة للشماليين السودانيين كي يواجهوا حقيقة أنفسهم، أن يعترفوا بتناقضات هويتهم المتخيلة وأن يعيدوا النظر فيها وأن يقبلوا ويعترفوا بالأم في داخلهم، حتى يصبحوا سودانيين من الدرجة الأولى بدلا من أن يكونوا عربا من الدرجة الثانية. وما لم يحدث هذا فإنهم لن يقبلوا "الآخرين" كمساوين لهم، وسنستمر في فقدان الفرص الضخمة والتي تحمل وعوداً عظيمة لمستقبل بلادنا وربما لسلام المنطقة بأسرها.

التوصيات:
يجب أن نصدر بيانا قويا يدين الحكومة والجنجويد للفظائع التي ارتكبوها في دارفور ويعبر عن التضامن مع الضحايا ويدعو لمحاكمة ومحاسبة الجناة وتعويض الضحايا أو أسرهم.

يجب أن نفضح الموقف المتآمر للمؤسسة الشمالية متضمنة المعارضة الشمالية وخاصة حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والتجمع الوطني الديمقراطي وجلابة المثقفين الشماليين.

يجب أن ندعو عضويتنا والجماهير عامة للتعبير عن تضامنهم وتعاطفهم مع الضحايا بصورة عملية مثل جمع التبرعات والتطوع وغيره.

يجب أن ننادي لبناء تحالف قوي لجماهير المناطق المهمشة والقوي الجديدة ودعاة السودان الجديد.                                                         
                 

                                       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق