الجمعة، 28 مارس 2014

خصائص النشوء و معالم الإرتقاء

حركة القوى الجديدة الديمقراطية( حق)
خصائص النشوء و معالم الارتقاء.

انقضى عام، أو كاد، على تكوين حركة القوى السودانية الجديدة (حق)، و شهد هذا العام نشاطا واسعا و تطورات عديدة مما يستدعي إلقاء نظرة إلى الوراء لتأمل خطوط السير، للإستيثاق من سلامة الاتجاه، و زيادة سرعة الإنجاز، و إصلاح أية اعوجاجات ربما تكون قد طرأت هنا أو هناك، و لتنمية الحركة نفسها باعتبارها حركة ناشئة، لا تستطيع أن تستغني عن التأمل الدائم لذاتها بروح إنتقادية صريحة، بعيدة عن العجب أو البطر و مقاومة في كل حين لمغريات الافتتان بالذات.
لقد تأثر تكوين الحركة بواقع الشتات الذي تعيشه حاليا المجموعات التي أسستها، فجاء التأسيس على مراحل، وتم في عدة بلدان تبعد كثيرا عن بعضها البعض، فقد تأسست الحركة في بريطانيا في الثالث و العشرين من يولين 1995، في اجتماع حضره تسعة و ستون من أعضاء الحركة، أجازوا فيه الوثيقة التأسيسية بالإجماع و أجازوا لائحة منظمة، و انتخبوا مكتبا تنفيذيا من خمسة عشر عضوا، ثم انعقد بعد ذلك بأسبوعين المؤتمر الثاني لحركة القوى الحديثة بالولايات المتحدة، و الذي حضره مندوبون عن حركة القوى الديمقراطية السودانية بكندا، و حركة القوى السودانية الجديدة ببريطانيا، و تم الاتفاق في ذلك المؤتمر على توحيد الحركات الثلاث تحت اسم حركة القوى الجديدة( حق) و ذلك بعد إجازة وثيقتها الأساسية مع إدخال بعض التعديلات عليه، ثم أعقب ذلك مباشرة رحلة عمل قام بها ثلاثة مندوبين من الحركة يمثلون لجانها الثلاث إلى القاهرة، ومن خلال حوار متأن امتد إلى ثلاثة أسابيع انضم ملتقى الحوار الديمقراطي بمصر إلى الحركة كرافد مؤسس من روافدها، و أثناء ذلك و بعده، تم تأسيس لجان للحرة في اريتريا، و في بعض البلدان العربية و في دول أخرى، ثم توجت هذه المرحلة من مراحل التأسيس بتكوين لجان للحركة داخل السودان.
و نستطيع أن نقول، دون مبالغة أو تهويل، أن ما أنجزته الحركة خلال هذا العام يعد إنجازا ضخما بكل المقاييس و تزيد ضخامته خاصة إذا وضعنا في الاعتبار وتائر الإنجاز السودانية بما هي عليه  من البطء و التواضع، و نود في هذه المداخلة أن نحدد الظروف و العوامل التي أحاطت بتكوين الحركة، و نوضح أن هذه الظروف و العوامل تحفز نموها و تطورها، و نرد في ثنايا ذلك على مزاعم انطلقت من هنا أو هناك حول أن الحركة نشأت متعجلة أو مشوهة، ثم نوضح، بدرجة من الإسهاب التي يحتملها مقال، محاور نمو الحركة لتركيز النشاط و شحذ الهمم لمزيد من العمل، و لمواجهة التحديات التي تكبر باستمرار و لذلك فان المقال يقع في قسمين:
1- ظروف و خصائص نشوء الحركة.
2- محاور نموها و ارتقائها.

أولاً: ظروف و خصائص نشوء الحركة

1-  غياب المشروع الوطني للنهضة الشاملة.
- بعد انهيار الديمقراطية الثالثة، و استيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم في الثلاثين من يونيو 1989، أفاقت أعداد ضخمة من المثقفين السودانيين، و أقسام متسعة من جماهير الشعب السوداني، على عمق و خطورة الأزمة السياسية الوطنية التي تحاصر شعبنا من كل أقطاره  و تمسك بتلابيبه، و جوبهت بتحد فكري يتمثل في اكتشاف العامل المشترك، و الخيط الناظم لركام العجز و الفشل الذي وضعناه فوق رؤوسنا، و أغلقنا به طرق سيرنا و مجال رؤيتنا، منذ الاستقلال و حتى اليوم. و قد توصل بعضها إلى الحقيقية التالية:
إن الأزمة الوطنية السياسية التي نمر بها و نعاني منها تتمثل في هذا الفشل الذر يع للطغمة الحاكمة منذ الاستقلال، بأجنحتها العسكرية و المدنية، و المحيطين بها من بيروقراطيين، و طفيليين، في طرح أو تحقيق مشروع للنهضة الوطنية الشاملة، و فشلها   بالتالي في حل المشاكل الكبرى التي ظلت تؤرق الاجتماع السوداني و تهدده بالزلزلة و الزوال، فقد اعتمدت تلك الطغم منهجا في السياسية يرى في السلطة مصدرا للنهب و الفساد و الثراء السريع، و ليس موقعها لخدمة المجتمع، و تنمية الثروة القومية و تلبية حاجات الملايين للماء و الغذاء، للتعليم و العلاج، للعدل و المساواة، للحرية و الديمقراطية، للثقافة و الترفيه. و لم يكن لديها من الخيال ما يجعلها تلهم شبعها و تفجر طاقاته في العمل الجاد الخلاق الكفيل وحده بتحقيق تطلعات الشعوب، و لم تسع بالتالي إلى اجتذاب أفضل العقول السودانية للاستفادة من علمها و خبراتها و مواهبها، بل أبعدتها و همشتها، و دفعتها دفعا إلى خارج البلاد، بينما قربت المسبحين، بحمدها، و المجملين لوجهها، و الساعين من خلال ذلك إلى خدمة مآربهم الخاصة، و قد دفع الشعب السوداني الثمن فادحا نتيجة لسيادة هذا المنهج في الحكم و سيظل يدفع الثمن إذا لم ينتصر و يسود منهج آخر على النقيض تماما مما عرفه طوال أربعين عاما.
و ربما لا تكون هذه الحقيقة، في بعض وجوهها الأساسية، جديدة على الوعي السياسي السوداني، و لكن الجديد هو القطع بأن مثل هذا المشروع لا يمكن أن يخرج من بين يدي هذه الطغم التي جربت و أعيد تجريبها، , إن الادعاءات بأنها تتعلم من أخطائها، و تتخطى نواقصها، و تستطيع من خلال ذلك أن تتصدى بنجاح لمقتضيات نهضة البلاد، ليست سوى أمنيات، تتحلى بكثير من حسن النية، و لكن بقليل جدا من التأمل أو الحكمة، و إذا كان الأمر كذلك فإن الطغم الحاكمة لتتعلم من أخطائها، خاصة و أنها قد تخطت مرحلة الدراسة ببعيد، بل تتمثل في أن تتقدم هذه القوى لتمسك مصيرها بأيديها، و أن تنظر إلى السلطة، و إلى القيادة  ليس كأمور موقوفة على أسر بعينها، أو مجموعات بعينها، بل كأمر يخص الشعب كله،  بفئاته كلها، التي يجمعها و يوحدها مشروع مشترك لنهضة البلاد.
و قد ووجهت هذه القوى عند ذلك بالسؤال التالي:
إذا فشلت القوى الحاكمة منذ الاستقلال، في طرح أو تحقيق مشروع للنهضة الشاملة، فهل خلت الساحة السياسية السودانية تماما من مثل هذا المشروع، و هل فشل الحكام كان مشتركا مع معارضيهم و قد كان عليها أن تجيب على هذا السؤال.

2- مشاريع للنهضة الوطنية .. و لكن...
- لقد طرحت في الساحة مشاريع للنهضة الوطنية من قبل بعض الأحزاب العقائدية و القومية، و التيارات المستنيرة داخل الأحزاب التقليدية، و لكنها لم تكن قادرة كلها على استقطاب تأييد شعبي كاف يجعلها تتحول إلى واقع عملي معاش، فقد طرح الحزب الشيوعي السوداني مشروعه لتطور البلاد المعروف باسم "الثورة الوطنية الديمقراطية" و فشل في تحقيقه لعدة أسباب:

أ-   مشروع الحزب الشيوعي السوداني المسمى "الثورة الوطنية الديمقراطية":
1- ربط قضية تحديث البلاد، كفضية مباشرة وواضحة، و مفهومة تماما لملايين الناس، مهما كان وعيهم السياسي، و مستواهم التعليمي، بمشروع طوباوي يخطط للمجتمع منذ اللحظة الحاضرة و حتى آخر تنظيم اجتماعي يمكن تصوره وهو " المجتمع الشيوعي" و تحويل النهضة الوطنية بالتالي إلى وسيلة فقط للانتقال إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية وقد رأى الناس، بسلامة بصائرهم، أن الثورة الوطنية الديمقراطية ليست سوى فقص حديدي، يكون غير قابل للفتح بمجرد الدخول فيه، و ذلك لأن مفاتيحه  قد قذف بها بقوة في غياهب الغيب التاريخي الذي لا يعلم سره أحد، و قد اختاروا بالطبع ألا يدخلوا ذلك القفص، و قد بدأ الشيوعيون بفعلهم ذاك كما لو أنهم يستعيرون المستقبل ليفتتوا به قوى الحاضر، و يقضوا به على آمال الناس الحقيقيين، الماثلين الآن ، جريا ووراء حلم خاص بهم، لا يشاركهم فيه أحد، و لا يستطيعون هم نقل تفاصيله إلى الآخرين، لأنه ملفح بكل غموض الأحلام، و كانوا في هروبهم ذاك إلى المستقبل، يمثلون الوجه الآخر لليمين الأصولي الذي سعى دائما، و بكفاءة أكبر و الحق يقال، إلى استعارة الماضي ليدمر به الحاضر و المستقبل، و يحقق به حلما ذاتيا ليس هو في الواقع سوى كابوس.

2- ارتباط المشروع الشيوعي بالدكتاتورية، سواء كانت ديكتاتورية التحالف الطبقي " الذي تكمن قيادته في صفوف الطبقة العاملة" في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو الدكتاتورية الصريحة  للبروليتاريا في مرحلة الاشتراكية، و إفضاء كل ذلك إلى الفوضوية المتمثلة في الغياب الكامل للحكومة في المجتمع الشيوعي، وقد رأى الناس عيانا بيانا كيف تحولت دكتاتورية الطبقة إلى ديكتاتورية الحزب إلى دكتاتورية الفرد، و كيف تطورت دكتاتورية الفرد، لتتحول إلى "عبادة" من قبل أولئك الذين تقلصت أحلامهم حتى كادت أن تنحصر في إطار المحافظة على مواقعهم في الحزب أو السلطة، أو المحافظة على رؤوسهم بين أكتافهم في بعض الحالات، و تحولت من الجانب الآخر إلى آلة جهنمية لسحق الملايين. و إذا كان الناس قد تعاملوا بثقة مع تصريحات الشيوعيين السودانيين حول قبولهم بالديمقراطية الليبرالية، فقد كانوا ينتظرون أن يعلن الشيوعيون صراحة تخليهم عن المشروع الماركسي في التغيير الاجتماعي، المستند إلى دكتاتورية البروليتاريا و القائم على استحالة تنازل هذه الأخيرة عن السلطة بمجرد استيلائها عليها بدعوى أن ذلك سيكون تراجعا اختياريا  عن مرحلة متقدمة في المسار التاريخي بحتمياته المعروفة، كما كانوا  ينتظرون كذلك أن يقوم بناء الحزب على أساس الديمقراطية (بمركزيتها الخاصة و المميزة) و ليس على المركزية "الديمقراطية" التي عرفت في كل مكان كمبدأ للطغيان القيادي، و أفضت إليه في جميع الحالات التي طبقت فيها، سواء على الأحزاب أو المجتمعات و ذلك دون استثناء إطلاقا.
و في الحالتين فإن قيادة الحزب قد أحجمت عن الذهاب مع الحجة إلى نهاياتها  المنطقية ربما لأنها استساغت منهج " الحشو" الفكري و السياسي، الذي يحدد المواقف، ويصوغ الحجج كيفما اتفق، ووفق ضرورات اللحظة، كما تطراء في شكل ومضات في ذهن قائد ملهم، ويتبعها الآخرون دون أسئلة كثيرة، دون حجاج أو لجاج، لأن آليات المركزية تجعل ملكة التفكير في القضايا الكبرى محتكرة لدي القيادة، و لأنهم فضلا عن ذلك، ربما يكونون قد سمعوا بها لأول مرة في ندوة جماهيرية، و هل يمكن للحزب أن يتراجع – أمام الجماهير – عن موقف اتخذه؟
و منهج الحشو الفكري، و السياسي ربما يكون مفيدا لبعض السياسيين لأنه يسمح بتعايش المواقف المتناقضة منطقيا، و لكنه ضار تماما بالوعي العام، و مصدر غني للديماجوجية و التشويش، و هو لا يقتصر على الحزب الشيوعي تحديدا، و لكن يستنكر عليه خاصة لادعاءاته الفكرية الكبيرة.
3-  و من الناحية السياسية فإن الحزب الشيوعي قد لجأ منذ صدمة الثاني و العشرين من يوليو 1971، و بمؤثرات الهزيمة التي استبطنتها القيادة حتى النخاع، إلى تبني منهج المخادعة في العمل السياسي، إذ يرفع شعارات طنانة حول المنازلة و الصدام و الثأر للشهداء.. الخ و يتخذ عملياً، و بعيدا عن أعين أعضائه و جماهيره، سياسة لتجفيف مصادر القوة الحزبية تجفيفا شاملا و كليا، مما حول الحزب الى حدّاث لا سوّاي، و جعل الأحزاب و الجماهير تسقطه من قوائم التعامل الجدي، و قد وصلت به هذه السياسيات العملية إلى الدرجة التي اضطرته للتعامل بذيلية دائمة للصادق المهدي و حكوماته، و قعد به ذلك عن توجيه النقد إليه طوال ثلاث سنوات كان هو المسئول الأساسي فيها عن كل الخطايا، و العجز و الفشل الذي انتهى بالكارثة.
و قد تحول مشروع الثورة الوطنية المزعوم، إلى مشروع، مع وقف التنفيذ، و ألحق بالتالي بالهلاميات الأخرى من حلقات البرنامج و المسماة بالاشتراكية فالشيوعية، وقد صار الحزب، كشخصيات "برينديلو" حزبا يبحث عن مشروع أضاعه، ويصطدم كقطة عمياء بجدران سجن صنعه لنفسه.
4- و من الناحية العملية، فقد ضاقت مواعين الحزب عن استيعاب الوافدين إليه بعد الانتفاضة، على قلة عددهم نسبيا، لأنها بقيت على حالتها من التقلص و الانكماش الذي فرضته ظروف السرية و ضرورات السلامة، و تكلست بفعل الاستبطان البطيء الطويل، غير الواعي عموما، حتى صارت "طبيعة ثابتة" للقادة و الكوادر. و تنامت من ثناياها زينوفوبيا حزبية، رافضة للغرباء أو مشترطة عليهم تبني شخصيات "حزبية" جديدة من حيث الأفكار و المزاج و العادات و لغة الخطاب، و "النفس العمالي" الذي يعطي للشخصية الحزبية نكهتها الخاصة، و قد  وصلت هذه  المسالة إلى مرحلة الشطط غير العقلاني، الذي يقسم أعضاء الحزب أنفسهم، و على قلة عددهم، إلى "حزبيين حقيقيين" و غير حقيقيين!   هذه الطقوس الكهنوتية، و هذه الأجواء غير الطبيعية، حملت الوافدين الجدد إلى الحزب، على النكوص على أعقابهم، و كأنهم قد اكتشفوا أنهم دخلوا بيتا لم يقصدوه.
هذه الأسباب التي ذكرناها، و التي توخينا فيها المثال أكثر من الحصر أدت إلى فشل مشروع النهضة الوطنية، المسمى بالثورة الوطنية الديمقراطية، و المطروح من قبل الحزب الشيوعي السوداني، و الذي لا نتوقع له إنبعاثا ثانيا، إلا ضمن شروط مختلفة، كليا لا تجعله حلقة في سلسلة شمولية، و لا مشروعا لحزب شيوعي.

ب- الأحزاب السودانية ذات التوجهات القومية العربية:
طرحت الأحزاب السودانية ذات التوجهات القومية العربية، من بعثية و ناصرية، مشاريع للنهضة الوطنية، على هذه الدرجة أو تلك من الوضوح و التكامل، ولم تكن مشاريعها تلك، أسعد حظا من المشروع الشيوعي للنهضة الوطنية، فقد فشلت هذه الأحزاب و المجموعات في "توطين" رؤاها العروبية لتصبح رؤى سودانية خالصة، و فشلت بالتالي في إقناع المواطن السوداني العادي بالنظر إليها كأحزاب مستقلة ذات رسالة وطنية  واضحة بمرجعية سودانية راسخة و يرجع ذلك لعدة أسباب نذكر منها ما يلي:
(1) ذهول  هذه الأحزاب عن خصوصية الهوية السودانية، و خصوصية العروبة السودانية، و قصور تعاملها مع التعددية السودانية، بمستوياتها المتعددة، و سعيها حتى عندما تعترف بهذه التعددية للتعامل معها كأمر عارض يمكن أن يتم تخطيه تماما عندما تبدأ عمليات الاندماج القومي  بوتائرها الكبيرة تحت ظلال الوحدة السياسية و الاقتصادية العربية. و هذا يشعر الجماعات غير العربية بأنها إذا أسلمت أمرها إلى هذه الأحزاب فإنما  تحكم على نفسها بالفناء بوضعها لأرجلها في خضم سيل عارم يجرفها إلى المجهول.
(2) التبعية السياسية و التنظيمية التي تربط هذه الأحزاب بالأحزاب الأم في الدول العربية، مما يجعلها تبدو أمام  المواطن و كأنها فروع سودانية لتلك الأحزاب، و لذلك لا يمكن تسليمها مصير السودان، لأنه في هذه الحالة يكون قد سلم إلى تلك الدول.
(3) ارتباط الدعوة للوحدة العربية، بالدكتاتورية في أكثر صورها تطرفاً و خاصة في العراق الداعية الأطول باعا للوحدة العربية و فشل التجارب السابقة للوحدة، و فشل النظم العربية الداعية لها، ليس في توحيد بلدانها فذاك أمر بعيد، بل فقط في الوصول إلى صيغ للتعاون الحكومي و الشعبي بين هذه النظم و البلدان، على غرار الدول الأخرى التي لا تربطها رؤى مشتركة بهذا القدر من الطموح، و استبدال العلاقات العادية بين الدول عموما بالعداوات المريرة و المؤامرات المتبادلة و التهديدات المتكررة بالسحق و الإفناء، مما أظهر الدعوة إلى الوحدة كدعوة للهيمنة من قبل دولة واحدة و شعب واحد على الدول و الشعوب الأخرى. و قد كان غزو العراق للكويت هو الإسفين الأخير في نعش الوحدة العربية بمفهومها الكلاسيكي.
و يمكن بالطبع الاسترسال في ذكر الأسباب التي تجعل مشاريع النهضة التي تطرحها الأحزاب ذات التوجه القومي العربي غير مرشحة لكسب غالبية الشعب السوداني في الأفق المنظور، و لكن ما ذكرناه يخدم غرضا حاليا في توضيح أمر واقع لا يحتاج إلى الإسهاب و الاسترسال و هو بقاء هذه الأحزاب على هامش الحياة  السياسية السودانية طوال أكثر من ثلاثة عقود، و هي مع ذلك قد تركت وراءها عهدها الذهبي، و جعلت تفكر في الاستيلاء على السلطة ليس عن طريق التفويض الشعبي بل عن طريق الانقلاب العسكري، و هذا ما يبعدها أكثر عن مواقع التأثير الشعب، ويجعلا تطوف على حواف المجتمع الديمقراطي كمتعب الهَذال في رواية مدن الملح، الذي أصبح يمثل وعيا منقرضا. ووسائل تخطاها الزمن.
و هكذا فإن مشاريع النهضة الوطنية المطروحة من قبل الأحزاب المعارضة لم تتوفر لها مقومات التماسك، و العمق و شروط القبول الشعبي الذي يحولها إلى واقع عملي.

3- تكوين حركة جديدة أم إصلاح الأحزاب القائمة من الداخل:
ووجهت الحركة الجديدة بأشكالها الجنينية المتعددة، بالسؤال التالي: هل غياب ما تسمونه بالمشروع الوطني للنهضة يسوغ تكوين حركة جديدة؟ أليس ثمة وسيلة لإدخال  هذا المشروع الذي عليكم أن تحددوا معالمه، وتتوفروا على صياغته، في البنية السياسية القائمة التي تقولون أنها تفتقر إليه؟ و بدلا من إنشاء حركة جديدة، بكل ما ينطوي عليه  ذلك من المصاعب و الخاطر و العنت و احتمالات الفشل التي ترجحها و تغذيها ظروف غير مواتية، لماذا لا تعملون على إصلاح الأحزاب القائمة، التي ثبتت أقدامها في ثرى السودان طوال نصف قرن من الزمان، و ارتبطت في أذهان المواطنين بأمجاد الاستقلال، و معارك استعادة الديمقراطية، و قدمت الشهداء و التضحيات، و صار قادتها الأُوَل رموزاَ للوطنية و الفداء،  لماذا تبدأون من الصفر و أمامكم تاريخ كامل يمكنكم وراثته؟ و إذا كانت لهذه الأحزاب نقائصها و أخطاؤها و تجاربها الفاشلة، فإن هذا سيكون هو بالضبط مدخلكم للإصلاح، و حجتكم في إقناع قواعدها بأهمية تغيير البناء الحزبي تغييرا جذريا. و من مصلحتكم بلا ريب أن تتعاملوا مع أخطاء الماضي التي ارتكبها الآخرون، تعاملا موضوعياً،  خالياً من المبالغة و الانفعال و الافتعال، فأنتم أيضا لن تستطيعوا تفادي ارتكاب الخطاء، و إذا سمحتم لأنفسكم بنقض كل إنجازات الماضي لأن أصحابها ارتكبوا بعض الأخطاء، فإن الأجيال القادمة ستفعل الشيء نفسه إزاءكم- و سيكون تاريخ السودان بالتالي عملية نقض و تدمير يتناقلها جيل عن جيل، فهل هذا ما تسعون إليه: أن يستند شعبكم إلى خواء بدلا من أن يستند إلى تاريخ؟
و لا شكل أن الدعوة إلى إصلاح الأحزاب القائمة دعوة صحيحة، و من الضروري تماما إنجازها إذا شئنا إقامة نظام ديمقراطي معافى و قادر على مواجهة مشاكل السودان المتفجرة و لا يمكن لأولئك الذين تتسم أحكامهم بالعقلانية و الاتزان، و يؤمنون في نفس الوقت بالتعددية الحزبية، أن يتجاهلوا الوزن الجماهيري لهذه الأحزاب، أو يفكروا مجرد تفكير أنهم سيصعدون على أنقاضها- فهذه الأحزاب التقدمية أو التقليدية ستبقى جنباً لجنب مع رصيفاتها الجديدة و الحديثة، و سيحدد مواقعها في السلطة أو المعارضة موقف الشعب منها من خلال العملية الديمقراطية، فالمنافسة القائمة أو التي ستقوم بين هذه القوى، لكسب عقول و قلوب النسا، ليست منافسة إقصائية بالنسبة لنا، و ليست نفيا جدلياً أو غير جدلي، بل هي منافسة ديمقراطية تبقي أطرافها جميعا بعد "المعركة" و إن تغيرت أوزانها و مواقعها وفق خيارات الناس. و نستطرد فنقول أن الدعوة إلى إنشاء أحزاب جديدة، لا تناقض إنشاء أحزاب جديدة بل هي من بعض الوجوه تستدعيها و ذلك لأسباب عدة نذكر منها ما يلي:
أ- ترتب على الأزمة الوطنية التي أشرنا إليها، و بالقدر الذي كانت هذه الأحزاب مسئولة عنها، أن أقساما وساعة من الشعب، و خاصة في أوساط المثقفين و القوى الحديثة انفضت من حول تلك الأحزاب، أو أحجمت عن دخولها منذ البداية، و أقامت سدودا منيعة فكرية و سياسية و نفسية، بينها و بين تلك الأحزاب مما يجعلها تتعامل مع قضية إصلاح  الأحزاب و كأنما هي ليست موجهة إليها، بل إلى آخرين تجمعهم بهذه الأحزاب ارتباطات قائمة. و قد شرعت هذه الأقسام بالفعل في تكوين تنظيماتها الخاصة، المنتشرة داخل السودان، و هنا و هناك في بلدان الشتات، و أصبحت المهمة المطروحة أمامها هي توحيد قواها المبعثرة هذه، بدلا من الاتجاه إلى إنجاز مهمة لا يعرفون حظها من الفشل أو النجاح.
ب- الشعور المؤرق، و الذي لم يفصح عنه حتى الآن بصورة سافرة، المتعلق بأن إصلاح هذه الأحزاب لا يمكن أن يتم من الداخل فقط، فمحاولات الإصلاح العديدة، التي ظلت تعرض نفسها على المسرح السياسي منذ الاستقلال، و التي ارتفعت نبرتها على وجه الخصوص في النصف الثاني من الستينات، وقد باءت جميعها بالفشل الذريع و بدلا من صرع القداسة على أبواب السياسة، كما كان يحلم السيد يحيى الفضلي، بدلا من فصل الإمامة عن الزعامة كما كان يدعو السيد الصادق المهدي، فإن قبضة المؤسسة الطائفية على الأحزاب التقليدية قد أصبحت أقوى مما كانت عليه في السابق، فمن خلال مسيرة متعرجة، لا نستطيع الآن الدخول في تفاصيلها، أصبح زعماء الطوائف هم حاليا رؤساء تلك الأحزاب، و مع أننا في هذه المسالة و في غيرها كذلك، لا نكتفي بالنظر إلى سطح الأشياء، و مع أننا نلمح شرر النار الذي يتوهج تحت الرماد، إلا أننا أبعد ما نكون عن الاعتقاد بأن لحظة الاضطرام قد أزفت، وفي اعتقادنا فإن الوميض سيبقى وميضا و أن الرماد سيبغى رماداً، حتى تضاف إلى الصراع الداخلي عوامل جديدة سنبين كنهها.
و ترجع قناعاتنا بعدم كفاية الصراعات الداخلية في إحداث الإصلاح الحزبي إلى تحليلنا لطبيعة المؤسسة الطائفية نفسها، فالمؤسسة الطائفية، بعبقها الروحي، و ولاءاتها المطلقة، و تماسكها التنظيمي، و منعتها الاقتصادية، و بنيتها شبه العسكرية، و عطاياها و جفائها، و جزرتها و عصاها، عندما تحتل مكان القلب من الحزب السياسي، فإنها تكون قد أخضعت هذا الحزب اخضاعا كاملا لنفوذها و أرادتها و أساليب عملها. و لا يتبقى أمام المنتمين إلى الحزب السياسي دون أن ينتموا في نفس الوقت إلى الطائفة إلا أن يسلموا أمرهم لأولئك الذين يجمعون بين الولاءين، الطائفي و السياسي. و في تجارب الإصلاح الحزبي منذ الاستقلال و حتى اليوم عبرة لمن يعتبر، وإذا فشل رجل في مكانة و علم و موقع و كاريزما؟ السيد الصادق المهدي، في مواجهة المؤسسة الطائفية و إقصائها عن مواقع القرار السياسي، و اكتفى بالعودة إليها و قبول شروطها، فإن حظ الآخرين من النجاح يمكن تقديره على هذا الأساس.
و نحن لا نريد أن نرسل رسالة خاطئة لتلك العناصر الشجاعة المستنيرة العاملة لإصلاح هذه الأحزاب من داخلها. و على وجه التحديد لا نريد أن نقول لهم أن محاولاتهم كلها ستبوء بالفشل الذريع، بل على العكس من ذلك نريد أن نقول لهم ما يلي:
إن هذه المؤسسة القوية، القائمة على الو لاءات المطلقة، ذات الطبيعة غير الديمقراطية، و غير السياسية في الأساس لن تقدم أية تنازلات لصالحكم غلا تحت التهديد بزوال نفوذها زوالاً كاملا بفعل مهددات خارجية تتمثل في بروز قوى جديدة تستقطب الجماهير، و جماهيرها هي ذاتها، بقوة جذبها الديمقراطية، ووضوح برنامجها السياسي، و كفاءة أدائها التنظيمي، عندما تأخذ هذه القوى الجديدة مكانها و مكانتها في الساحة السياسية، و تبدأ في منازعة هذه الأحزاب على قواعدها الجماهيرية السابقة فإن  القيادات الطائفية ستنتبه إلى أن الولاء الطائفي لم يعد كافيا في حد ذاته لضمان الولاء السياسي،و ستبدأ في الاستجابة إلى مطالب الإصلاح الديمقراطي، و ستكون استجابتها متناسبة مع حجم مخاطر التهميش الجماهيري لأحزابها، و ستقدم تنازلاتها هذه لصالح عناصر الإصلاح داخل أحزابها، و ربما ستجيب في نهاية المطاف إلى دعوة فصل الطائفة عن الحزب، إبقاءاً على نفوذهما معا، و تكتفي بالتالي بدور الرعاية و المباركة الذي ارتضته فيما سبق.
رسالتنا إلى دعاة الإصلاح الحزب، من الداخل، واضحة إذن، و هي أن بروز قوى جديدة، و أحزاب جديدة، يخدم أغراضهم في نهاية المطاف، وأننا لن نسمح لهم " باستخدامنا" في معركتهم تلك، علما بأن بروز أحزاب و تنظيمات جديدة لا يملك أحد أن يمنعه، حتى إذا شاء فالمنهج الأسلم إذن هو التعاون بلا حدود أو حساسيات بدلا من المخاوف غير المؤسسة، و الشكوك التي لا طائل من ورائها.

4- القوى الجديدة ليست لها قاعدة اجتماعية معتبرة.

القول بأن القوى الجديدة ليست لها قاعدة اجتماعية معتبرة، يستمد أهميته من الوزن السياسي للجهة التي أطلقت، و ليس من قوة الحجج التي أوردت في إثباته، و في الواقع فإن مثل تلك الحجج لم تطرح أبداً. بل إن المغزى الحقيقي للعبارة نفسها لم يفصح عنه بصورة كافية، فما معنى هذا القول يا ترى،و ما مدي صحته؟
لقد طرحت القوى الجديدة برنامجاً للنهضة الوطنية الشاملة، و له من الأسباب القوية ما يجعلها تعتقد أن أغلبية جماهير الشعب السوداني لها مصالح محددة في تنفيذ و إنجاز ذلك البرنامج. و لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، بل تسعى عمليا، و على مختلف الصعد لإقناع هذه الأغلبية بصحة رؤيتها، و ضرورة تأييدها لذاك البرنامج و الوقوف معه سواء بالانضمام إلى صفوف هذه الحركة الجديدة، أو تأييدها في الانتخابات العامة، أو التنسيق معها في حالة مخاطبة الأحزاب و الحركات الأخرى ذات البرامج المتشابهه و الأهداف المشتركة، وستكون العبرة ليست باعتقاد هذه القوى الجديدة- مهما كانت قوة ذلك الاعتقاد- بسلامة برامجها، بل بنجاحها الحقيقي في استمالة الناس إليه، فليس من الديمقراطية في شيء "و دعونا نتحدث في الأبجديات"، أن يزعم حزب ما، أو حركة ما، بأنه يمثل طبقة معينة من الطبقات، أو قطاعاً معينا من الشعب، أو قومية محددة من القوميات، بدون تفويض صريح، معبر عنه ديمقراطيا، من قبل تلك الطبقة، أو ذلك القطاع أو تلك القومية، و لا يكون التمثيل حتى في هذه الحالة دائما أو أبدياً، بل ينحصر فقط في الأجل الزمني المنصوص عليه صراحة، و يمكن تجديده أو إلغاؤه بانقضاء ذلك الأجل.
حركة القوى الجديدة صاغت الخطوط العامة لبرنامجها، و شرعت في طرحه على الناس، و هي تخطو خطواتها الأولى على طريق التأسيس، و إقبال الشعب عليها، أو صده لها، هو الذي سيحدد وزنها الجماهيري و قاعدتها الاجتماعية, فهل من حق أحد أن يؤكد مسبقا بأن الشعب سيرفضها، و ستبقى بالتالي بلا قاعدة اجتماعية معتبرة، إلا أن يكون مطلعا على الغيب، أو ممسكا بمفاتيح القلوب!!
و مع ذلك فإننا نتفق بأن التحليل السياسي و الاجتماعي يسمح بقدر محدود من "التنبؤات" المبنية على استيعاب طبائع الأشياء و استقراء اتجاهات تطورها المنظورة، فيمكن مثلا أن نقول أن تكوين حزب "للخضر" في السودان لن تكون له قاعدة اجتماعية معتبرة و ذلك بعدة أسباب خاصة بمجتمعنا و طبيعة المشاكل التي يواجهها و الأولويات التي يضعها لممثليه السياسيين. و نستطيع أن نقول أن حزبا لا يتمتع بالتالي بقوة جذب ديمقراطي، لن ينال الأغلبية في سودان الغد، و ذلك لإلمامنا بطبيعة شعبنا و باتجاهات الوعي السياسي العالمي، و من ناحية أخرى، و بشكل ايجابي، نستطيع أن نقول أن حزبا ينشأ في خضم أزمة وطنية، و يضطلع بواجبه كاملا في إسقاط سلطة الجبهة الإسلامية، ويطرح برنامجا يستجيب للمصالح الماثلة للمهمشين و النساء و المنتجين و المثقفين و الطلاب و الشباب أو لأقسام واسعة  منهم، إذا شئنا الدقة، و يمارس الديمقراطية الحقيقية داخله في نفس الوقت الذي يشير بها للمجتمع و يصدق القول بالعمل، سيجد سنداً اجتماعيا واسعا في بلادنا. مع علمنا بأن هذه "النبوءة" تبقى مجرد احتمال إذا لم تكتمل العملية المعقدة المتمثلة في الدعوة الحزبية و الاستجابة الجماهيرية. و بناءً على هذه الاعتبارات نقول أن الحكم المسبق بأن هذه الحركة الجديدة ليست لها قاعدة اجتماعية معتبرة يمثل وعياً بايتاً يحدد للأحزاب و الحركات "قاعدتها الاجتماعية" بمعزل عن الخيارات الشعبية و في غيابها، بدعوى امتلاك منهج  في التحليل يمكنه "تحديد الأصول" الطبقية و الاجتماعية للأفكار و البرامج بدقه رياضية بمجرد النظر فيها بذلك المقياس السحري، و من الواضح أن ذلك الادعاء لم يعد يحظى بقدر كبير من التعاطف، و يوازيه في الخطل الادعاء بأنك تمثل القوميات المهمّشة كلها، لمجرد أنك أعطيت نفس الحق في التحدث باسمها.

5- هل كانت عملية نشوء الحركة الجديدة، و توحيدها، ملفقة و متعجلة؟
لقد أقمنا  الدليل في غير هذا المكان، و أثبتنا بالوثائق*، أن عملية التوحيد كما حدثت في انجلترا، و في الولايات المتحدة و كندا، وفي مصر، و غيرها، كانت عملا ديمقراطيا ناضجا، و متأنيا و حكيما، و بالغ الحساسية تجاه الآخرين، و متعاطفا كليا مع مساهماتهم، و حريصا على مشاركتهم. وقد شملت عملية التوحيد كل تنظيمات القوى الجديدة الراغبة في إذابة تنظيماتها في حركة واحدة، وقد بقيت من هذه العملية مهمة إيجاد أشكال التنسيق الملائمة مع تلك التي تريد أن تحتفظ باستقلالها التنظيمي، و لكنها تريد في نفس الوقت، أن تجتمع على خطة مشتركة، تعبر عن اتفاقها السياسي حول أكثر من نقطة واحدة.
صحيح أنه قد تخلف عن عملية التوحيد،  بعد أن سار في ركبها بضعة خطوات، نفر قليل في انجلترا، و اثنان أو ثلاثة في مصر، لأسباب شخصية تخصهم، و قد صمتنا عن ذلك باعتباره أمرا طبيعيا، فلا توجد عملية سياسية أو غيرها، بلا نسبة فاقد معينه.
وقد تمادى ذلك النفر فادعى أن عملية التوحيد لم تتم أصلا، بل عاد و رفع راية أحد التنظيمات التي شاركت في عملية التوحيد، و ذابت فيها تماما. و مع ذلك فإن الحركة لم تحتج مجرد احتجاج على هذا النكوص، باعتبار أن أبوابها مفتوحة للداخلين و الخارجين، وهي حريصة على التحلي بالسماحة و الكرامة تجاه الخارجين منها، كما كانت حفية بهم عند استقبالهم أول مرة، كما حريصة أيضاً أن يكون مكان الخروج منها واضحا وضوح مكان الدخول إليها، و لكن الخارجين منها كأفراد، إذا ادعوا أنهم أخذوا معهم مكوناً أساسياً من مكوناتها، مع أنهم خرجوا صفر اليدين، فإن من حقها أن توضح مدى تهافت هذه  الفرية، و هو حق استخدمته، و ستستخدمه، بكل القدرة و الوضوح و الفصاحة، المصاحبة للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه. و ليس صدفة أن الذين يواجهونها بالاتهامات العرجاء، يجدون أنفسهم مضطرين دائما إلى الوقوف على رابية من الأكاذيب البلقاء. و من خلال كشف تلك الأكاذيب استطعنا أن نثبت التهمة- و ليس الوحدة- هي الملفقة.

6- و لكن ماذا عن تهمة التعجل؟
الرد على تهمة التعجل أصعب قليلا من الرد على تهمة التلفيق ففي وجه الثانية تنتصب الحقائق، و لكن ماذا  عن الأولى ماذا تقول لمن يتهمك بالتعجل، دون تحديد المعيار الموضوعي الذي يستند إليه، و دون الإشارة للفقرة من القانون التي تحدد السرعة القصوى للسير؟
و في ردنا على هذه التهمة التي لم تحدد معاييرها، دعونا نحاول أولا إيجاد هذه المعايير، و لنستعن على ذلك بضرب بعض الأمثلة:
فلو أن جنرالاً شرع في مهاجمة عدو أوفر منه عددا، و أرفع منه تسليحا، مع علمه بأنه إذا أجل هجومه أمداً محدوداً ستنضم إلى صفوفه قوى تفوق العدو عدداً، و ستصله أسلحة أكثر تطوراً من أسلحة العدو. لاتهمناه، ضمن تهم أخرى، بالتعجل، إذ أننا نقيس فعله ذاك بقاعدة واضحة: و هي توفير مقومات النصر، و هي متاحة، قبل الدخول في معركة ستكون خاسرة وفق كل المعطيات.
و لو أن امرأة أصرت على إجراء عملية ولادة قيصرية، وهي في شهرها الثامن، لاتهمناها بالتعجل، قياساً على قاعدة واضحة هي اكتمال نمو الجنين قبل ولادته، و هكذا و لكن هل يمكن أن نتهم بالتعجل من يركض إلى خارج المبنى و هو يعلم أنه آيل للسقوط، أو من يغادر المنزل و هو في حالة الهرولة لأن المنزل يحترق؟
و هل يمكنك أن تقبل تهمة التعجل يقذف بها من ورائك من كان يسير معك جنباً إلى جنب و لكنه اختار لأسباب تخصه وحده أن ينكص على عقبيه، أو يخطو خطوة إلى الأمام و خطوتين إلى الوراء؟ و ماذا تقول لمن يتهمك بالتعجل ففقط لأنكما تفكران بوتائر مختلفة، و تحسان بالزمن، و بالتاريخ و تتعاملان معهما، بصورة مختلفة؟
و استناداً إلى المعايير الموضوعية يمكن أن نقول أن توحيد القوى الجديدة لم يكن أمراً متعجلاً بأي وجه من الوجوه فهي دعوة قد صدرت في الأساس من المنبر الديمقراطي السوداني بالمملكة المتحدة، و الذي ظل طوال عام 1994 يدعو إلى عقد مؤتمر "لتوحيد القوى الجديدة"، و أرسل دعواته إلى القاصي و الداني، و تبادل في ذلك مئات الرسائل، مع التنظيمات و الأفراد، بل حدد موعد الانعقاد في أكتوبر من ذلك العام، و قام بحجز القاعات!... بالنسبة إلى المنبر الديمقراطي، إذن و بالنسبة إلى قادته و قاعدته جميعا، و استنادا إلى الأفعال و ليس إلى الأقوال فإن موعد التوحيد قد أزف في أكتوبر 1994، و إذا تم التوحيد في أي تاريخ لا حق، فإنه لا يكون متعجلا بل يكون بطيئا، و الطريف في الأمر أن الحركة السودانية للديمقراطية و التقدم هي التي طلبت التأجيل. و منذ قبول اقتراحها و حتى انعقاد المؤتمر في  الثالث و العشرين من يوليو 1995، تولت أمر التحضير لجنة أكبر، من التنظيمين و من شخصيات من غير المنتمين إليهما، و قد طرحت هذه اللجنة الموسعة على نفسها مهمة اصغر مما كان المنبر قد طرحه على نفسه منفرداً، و هو توحيد القوى الجديدة ببريطانيا، بدلا من  توحيدها في كل بلدان الشتات. إذن الموعد أجل، المهمة قلصت. المشتركون في التنفيذ زاد عددهم، فكيف يسمح لنفسه من كان يدعو على تنفيذ مهمة أكبر، بعدد أقل، في مدة أقصر، باتهام من قلصوا المهمة و زادوا المشتركين في تنفيذها و مدوا أجل التنفيذ، بالتسرع و الاستعجال؟ و هل يمكن وصفه حينذاك بالموضوعية و الاتزان؟
إننا أمام حالة تريد فيها مجموعة ضئيلة أن تفرض سرعتها، و وتائرها، و تصوراتها الذاتية، على الحركة ككل، أي أنها تريد أن تلعب دور (الرأس) في جسم بلا إرادة مستقلة! أو ليس من الأمور الأكثر بداهة أن مجموعات الحركة في أكثر من قطر، بأغلبية تكاد أن تكون إجماعا إذا رأت أن أوان التوحيد قد آن، و قامت بإنجازه بالفعل، أنها محقة في رأيها ذاك؟ و هل من حق أحد أن يتهمها بالتسرع و الاستعجال و الخطأ إذا لم يعتقد أنه عقلها الذي يفكر و لسانها الذي ينطق و عينها التي ترى؟ و نحن قد رأينا أحزابا بأكملها تقيس سرعتها على سرعة رجل واحد يقودها، فهل نسمح بذلك وسط القوى الجديدة؟

إن من حق البعض أن يقول إن أوان التوحيد لم يحن بعد (فيما يتعلق به هو)، و لذلك فإنه ينأى بنفسه حالياً و ربما يلحق بالركب غداً، و سيكون في هذه الحالة قد مارس حقا من حقوقه. دون أن يتغول على الآخرين، و هذا يقتضي بالطبع درجة من النمو الديمقراطي الذي ربما لم يحن بعد، بالنسبة لذلك النفر، أوان توفرها، و فيما يتعلق بتوفرها، فإننا لا (نستعجل) بل نصبر و ننتظر، علّ الوادي ينبت زرعا!
و من زاوية أخرى، فهل يمكن الاستماع بأي قدر من الانتباه إلى من يقول لك بعد سنوات من حكم الجبهة الإسلامية، أنك تستعجل إذ تكون تنظيما تريد عن طريقه أن تلعب دورا متواضعا في مقاومتها و إسقاطها؟
و قد سمعنا مؤخرا أن تنظيمين افتراضيين، قد اتحدا مع تنظيم حقيقي معروف. و قد حدث ذلك دون تحضير، ودون وثائق مشتركة بل دون حتى حضور قيادي من التنظيم الوحيد الحقيقي. فهل هذا يا ترى هو مثلهم الذي يريدون أن يضربوه لنا في الصبر و الأناة و الحكمة و تفادي  الاستعجال؟ و هل يريدون أن يبرهنوا لنا، ببيان من عدة أسطر، مدي "التعقيد" الهائل الذي تنطوي عليه عملية توحيد القوى الجديدة؟!
و على كل حال، فإن مقولة الاستعجال تتعلق فقط بتوحيد المجموعات القائمة، و هذه مهمة تم إنجازها بصورة نراها مرضية، و قد تخلف عنها البعض ممن تعودوا على نمط معين في "العمل السياسي"، هو أقرب إلى مجموعات و روابط الأصدقاء و الأخوة، منه إلى العمل السياسي العام، المفتوح للجميع، و الذي لا يلعب فيه الاستلطاف ووحدة "المزاج" إلا دورا محدوداً. و هذا النمط من العمل السياسي، بطابعه المغلق و الحميم، ربما يمثل عزاءً ضرورياً، يخفف من وطأة عذابات الغربة الطويلة، و لكنه دون ريب أقل كثيرا من الطموح عندما يتعلق الأمر بتحرر شعب، و إسقاط سلطة فاشية، و بناء نهضة وطنية فهذا أمر لا تحققه التنظيمات "المنزلية" التي تجتمع اجتماعات مكتملة النصاب في حجرة صغيرة الحجم في عطلة نهاية الأسبوع لتدير اسطوانتها المشروخة،وتنسج مؤامراتها المتواضعة!، و لكن مقولة الاستعجال لا تمتد إلى بناء الحركة بناءً حقيقياً، باستمالة الأعضاء الجدد، و بناء اللجان الجديدة، و المؤسسات الجديدة. و إذا كان هذا هو الجهد الأساسي للحركة حاليا، فإنه يوضح إلى أي مدى هي قادرة على أن تترك وراءها المتخلفين عنها،  إلى أي مدى يتضاءل شأن اعتراضاتهم، إلى أي مدى تتبدد أصواتهم في متاهة العجز و الدوران حول الذات.

ثانيا: تصورات استراتيجية لنمو الحركة و تطويرها و توسيعها.

لا تنمو الحركة عشوائيا، و لا تحقق أهدافها عن طريق ذلك. تنمو الحركة وفق تصورات خلاقة، يشارك في صياغتها، و تحقيقها، و بأقدار متفاوتة، أعضاؤها جميعاً. و هي تصورات مرنة، ملجمة بالحكمة، و التواضع، من أن تصبح معياراً لذاتها، مما يحولها إلى دوغمائية مغلقة أمام كل احتمالات النفي و النقض و التخطئة، الكلية أو الجزئية. و لكنها في نفس الوقت تصورات واثقة بذاتها بصورة تؤهلها لتلعب دورها المشروع في تغيير الواقع، فالواقع هنا ليس عقلا  مجرداً مشتملاً على المقاييس المطلقة للصواب و الخطأ، و لا هوية مغايرة تواجهها الحركة مواجهة النقيض للنقيض. الواقع الذي نعنيه واقع اجتماعي، أساسه الشعب بقومياته و طبقاته و قبائله و أفراده، بأحزابه و مؤسساته و تنظيماته، بآماله و تطلعاته، و مشاريعه و تصوراته.
الواقع هو الأصدقاء و الحلفاء وكل الأعمال المشتركة التي يمكن إنجازها بالاتفاق معهم، و هو الأعداء بكل قواهم و مخططاتهم العدوانية و كل ما ينطوي عليه الصراع معهم من إمكانيات السحق و التدمير.
و الواقع هو السلطة و مشاريع الاستيلاء عليها و إعادة صياغتها من قبل جميع القوى السياسية، و الواقع هو العصر بكل اتجاهاته الإيجابية أو السلبية، بعلومه و تقنياته، و معلوماته، و حروبه و صراعاته.
الحركة ببرامجها و تصوراتها، و سياساتها العملية، تسعى إلى تغيير هذا الواقع بحيث يكون أكثر قربا من صورة العدالة و الحرية و الجمال التي تحملها. و تفعل ذلك دون أن تسمح لنفسها بالثبات في مكانها، أو الغفلة عن المعطيات الجديدة التي تتولد في كل لحظة، و التي تستدعي إعادة صياغة الوسائل و إعادة ترتيب الأولويات، بل و إعادة صياغة الغايات نفسها في بعض الأحيان، و تغيير الذات باستمرار لتتواءم مع كل ذلك.
 في ضوء هذا الإطار العام، المطروح للتطوير هو الآخر، لنضع تصوراتنا لاستراتيجية نمو الحركة علَّ ذلك يكون حافزا للعقول الفعالة للتعميق و الامتداد و الاختلاف.

7- تطوير برنامج الحركة كنشاط مستديم و محور أساسي
 نعتقد أن الوثيقة التأسيسية للحكة و التي أجزيت من قبل كل لجانها تمثل إضافة حقيقية للأدب السياسي السوداني فهي قد طرحت تصورات واضحة، و متقدمة، حول القضايا الجوهرية التي يواجهها السودان و شعبه في حاضره الراهن و مستقبله القريب. و قد وجدت الوثيقة حفاوة بالغة، ليس من قبل أعضاء الحركة، فهذا متوقع، و لكن أيضا من قبل شخصيات محايدة وتنظيمات سياسية أخرى.و فيما يتعلق بقضايا: توصيف الأزمة الوطنية،و تحليل طبيعة السلطة و كيفية مواجهتها، و علاقة الدين بالدولة و آليات الحفاظ على وحدة البلاد، و قضايا العدالة الاجتماعية و مداخلها المتعددة، و خصائص النظام الديمقراطي و حقوق الإنسان، و مفهوم الهوية السودانية، ووحدة القوى الجديدة و أشكالها، و غير ذلك، نعتقد أن الوثيقة قد كانت مساهمة معتبرة و غنية، و قد وجدت مكانها في نسيج الفكر السوداني. و لكن الوثيقة ليست سوى بداية. و إذا اكتفت الحركة بها، و توقفت عندها، فإنها تكون قد حكمت على نبتتها الواعدة باليباس، قد طرحت الحركة في ثنايا تلك الوثيقة دعوتها لإحداث النهضة الوطنية الشاملة، فماذا تعني بذلك؟  ما هي ملامح النهضة الوطنية الشاملة، في السياسة و الحكم، في الاقتصاد والاجتماع في الثقافة و الفنون و الآداب، في العلم و البحث؟ هذا  هو التحدي، الفكري، و السياسي، الذي يواجه الحركة الآن. إذ أن عليها أن تفصح عما تعد به أهل السودان في كل هذه المجالات. و عليها من أجل أداء هذه المهمة الكبيرة أن تحشد طاقات و عقول كل أولئك الذين انتموا إلى صفوفها من المثقفين و العلماء و الأدباء و الصحفيين،و أن تحاول بكل الوسائل و السبل الوصول إلى أولئك الذين لم ينتموا إليها سياسياً و لكنهم يشتركون معها في الهم الوطني العام. و يتفقون معها أن العلم و الفكر و الخيال، بأبعادها الإنسانية الرحبة، هي مطايا أهل السودان لطي حقب الغياب التاريخي، و الانتقال إلى قلب العصر، و الإندياح مع نهر الحياة الصخاب، و حفز أولئك و هؤلاء على وضع تصوراتهم على الورق، و نشرها على الآخرين، و إدارة حوار عميق و مسئول حولها، عن طريق الأشكال المناسبة، "سمنارات و ورشات عمل، و مؤتمرات"، و أن تضطلع الحركة بدورها في إنشاء المنابر  التي تجعل ذلك ممكنا و بهذه الطريقة تتمكن الحركة من صياغة برنامجها المتكامل، لتؤمها الجماهير على أساسه و تحاسبها عليه,
ونحن إذ نقدم على وضع برنامج بهذا الطموح، لا نتعامل مع ذلك كواجب أكاديمي صرف، بل نضيف إلى الجهد الأكاديمي الرصين، المساهمة الواسعة من أعضاء الحركة غير المختصين، و من جماهير الشعب السوداني عامة، و التي لها رؤيتها الخاصة و لسانها الفصيح الذي تعبر به بشكل أصيل و متفرد عن المشاكل التي تعانيها و رؤيتها لحلها، ولذلك يصبح وضع البرنامج و تطويره، مهمة دائمة و متجددة تفرضه على الحركة المواقع المتقدمة باستمرار التي تصل إليها في مسيرتها نحو أهدافها  فلتنصرف الحركة إلى أداء هذه المهمة بكل جهدها و همتها، داعية أولئك المختصين المتميزين الذي التحقوا بصفوفها ليتقدموا الصفوف.

8- القيم الكلية التي يوضع البرنامج على ضوئها.
 توضع البرامج السياسية مستلهمة قيما كلية تتوخى تجسيدها على الأرض، و هذه القيم الكلية هي التي تعطي البرامج السياسية أبعادها النهائية، و تبريراتها الجوهرية، و تحدد للمرء معنى الجهد الذي يبذله في تحقيقها. و قد درج الأدب السياسي على تسمية هذه القيم الكلية بالأيدولوجيا. و نسبة لما علق بهذا الاصطلاح من الاختلاط و التشويش، و لارتباطه ببعض المشاريع الشمولية، فإننا لا نستخدمه إلا بحذر شديد، مع محاولة التوضيح الدقيق لما نأخذه منه و ما نتركه، و ذلك في نقاط موجزة:
(1) ليست للحركة أيديولوجيا شمولية تفسر – في نفس الوقت- نشأة الكون، و أصل الإنسان، وسر الأديان. أنها فيما يتعلق بكل ذلك تضرب، و بوعي تام، عن الإدلاء بأي رأي لأنها قاصرة بطبيعتها ذاتها كحركة سياسية عن بلوغ الشأو في هذه القضايا، أو تحقيق أية درجة من درجات الإجماع التي تقتضيها المسائل السياسية. و هي غير مؤهلة لذلك، و لا تملك أدواته، كما أنها و ببساطة تامة- لا تحتاج إليه.
إن كل عضو، من أعضائها بوسائله الخاصة، الفلسفية و الفكرية و طاقاته الروحية، يمكن أن تكون له آراؤه، المصاغة و المنشورة،  أو الهلامية و المضمرة و الضمنية، حول هذه القضايا كلها، و لكنها آراء ليست للحركة علاقة مباشرة بها، و ليست بالتالي مسئولة عنها  فالحركة لا تؤمم أعضاءها، و لا تحيط بأبعادهم الإنسانية كلها. و النشاط الإنساني أوسع من النشاط السياسي، الذي لا يمثل سوى بعد واحد من أبعاده.
إن ما تؤمن به الحركة، و تدافع عنه، في هذه المجالات، هو حرية الفكر، و حرية الاعتقاد، و حرية نشر الأفكار و الوقوف في وجه كل من يريد أن ينصب نفسه وصيا على العقول و الضمائر، ليس أكثر، و لكن ليس أقل  بحال من الأحوال.
(2) لا تؤمن الحركة بأيدولوجيا طبقية. المبادئ الأيديولوجية، و التي يفحص كل واحد منها على أرضيته الخاصة، إما أن تكون إنسانية أو معادية للإنسان، إما تكون جالبة لسعادة الإنسان و محافظة على كرامته، و إما أن تكون متسببة في شقائه و حاطةً لكرامته. و الإنسان الذي نتحدث عنه ليس معلقا في الهواء، و لا تجريداً ذهنياً، إنه الإنسان الماثل أمامنا، الذي يمشي في الأسواق، و الذي ينتمي إلى هذه الطبقة أو تلك، إلى هذا الجنس أو ذاك،  إلى هذه القومية أو تلك، إلى هذا الجنس أو ذاك، إلى هذه الطبقة أو تلك، إلى هذا الدين أو ذاك، و لكنه لا ينتمي بشكل حصري إلى طبقة بعينها يدعي البعض لها، و بالنيابة عنها، ولأهداف خصهم وحدهم و لا تخصها، أنها تحتكر الخير و الحق و الجمال.
(3) لا تؤمن الحركة بأن ثمة مصالح اجتماعية غير قابلة للتوفيق، و الحلول السلمية المؤقتة، وليس لديها تصور بأن طبقة بعينها ستقلب الموائد – عنفاً أو سلماً- على كل الطبقات الأخرى و القوميات الأخرى، و الأديان و الثقافات، لتبدأ حضارة جديدة، بلا طبقات أو قوميات أو أديان أو ثقافات متباينة، بل إن الحركة ستقاوم مثل هذه الدعوة، و هذا الادعاء، بكل ما تملك من قوة، باعتبارها شراً مطلقا، يتبختر في أثواب الخير المطلق.
(4) للحركة قيمها الايجابية  التي تستلهمها و تهتدي بها و تعمل على تحقيقها، و هي تفعل ذلك في إطار التقسيم المعقد للعمل الذي وصل إليه المجتمع المعاصر فهي حركة سياسية، غير منخرطة مباشرة في الإنتاج الأيديولوجي، الذي يضطلع به متخصصون أكفاء، أو موهوبون لديهم الاستعدادات التي تؤهلهم للمساهمة الخلاّقة في هذا المجال. و لكنها ليست مستهلكة للقيم الأيديولوجية بالمعنى الدارج للكلمة، أنها تتمثلها و تتبناها و تلتزم بها، أي تحفظها و تطورها. بل تفعل أكثر من ذلك، إذ أنها تسعى إلى تحويلها من صياغاتها النظرية، و أطرها الساكنة، على الواقع المعاش، و تقوم بإحيائها، و تزودها باللحم و الدم، و العنفوان، و تغير به الحساسية العامة، و الرؤى القديمة و تفجر عن طريقها طاقات الناس و ملكاتهم الإبداعية.
(5) صياغة هذه القيم لا تتم مرة واحدة، و لا من قبل شخص بعينه، و لا في مقال منفرد، إن وثيقة مؤسسة يجب أن تصدر من الحركة ككل، في مؤتمر من مؤتمراتها القادمة، و تتعدها بعد ذلك بالتطوير المستمر، كلما اقتضت الضرورة ذلك. و لا نعدو في هذه الورقة، أن نحدد المنهج الذي نتبعه في صياغة نظراتنا الاجتماعية، و الإطار العام الذي يدور داخله التذكير بأن هذا الإطار نفسه، و بعموميته هذه ، مثله مثل كل الإجتهادات الأخرى، مطروح للمناقشة و التقويم و النقد و النقض، ونحن نذكر بهذه الحقيقة، التي صارت بداهة كلية في العالم من حولنا، لأن مستوى التعامل الشائع مع البرامج و الإجتهادات يقتضيها.
(6) نبدأ بإثبات أن منهجنا في دراسة المجتمع، و صياغة النظرية الاجتماعية و رسم البرامج السياسي، وإدارة الدولة، هو المنهج العلمي.
المنهج العلمي القائم على الملاحظة، و القياس الكمي للظواهر، و المسوح الإحصائية، و الدراسات الميدانية، و تصنيف الحقائق و ترتيبها، و طرح الأسئلة الصحيحة و تدقيقها، و تكوين الفرضيات و ابتداع النماذج و إعمال الأساليب المنطقية من استنتاج و استقراء و إزالة للتناقض، و امتحان النتائج بالتجربة، و جعلها قابلة للنقض كما هي قابلة للإثبات.
المنهج المستند إلى كل إنجازات العلوم الاجتماعية،  ووسائل البحث المتقدمة، و المعتمد على مقدرة العقل الإنساني في التقاط الظواهر و كشف العلاقات، و معرفة الأسباب أو النفاذ إلى جوهر الأشياء و إستبانة اتجاهاتها المستقبلية، و المنطلق في كل ذلك من خصوصية المجتمع السوداني، و خصوصية مشاكله و حلولها.
و هو منهج عارف لكون التنظير الاجتماعي يتعلق بالناس، و اختياراتهم الحرة إلى هذه الدرجة أو تلك، و التي لا يمكن التنبؤ بها على وجه الحصر و الدقة، و لا يمكن التعامل معها إلا كاحتمالات مرجحة. كما يتعلق في نفس الوقت بالمجتمع ككينونة ديناميكية، متجاوزة لنفسها باستمرار، و متجاوزة بالتالي، لكل الصياغات المسبقة لاتجاهات تطورها، ففي كل منعطف جديد من منعطفات تطوره يطرح المجتمع معطيات جديدة، نظرية و عملية، و من هنا ضرورة انفتاح النظريات الاجتماعية، وضرورة انتباهها  اليقظ للمتغيرات، و استعدادها الدائم لإعادة النظر في استنتاجاتها السابقة لتستوعب الظواهر الجديدة، وتستبين الاحتياجات الإنسانية الجديدة، و الإمكانيات المتوفرة لتحقيقها، و القوى القادرة على فعل ذلك، و التشكيلات التنظيمية الملائمة لإنجازه. بهذا تستطيع النظرية الاجتماعية أن تلعب دورها في توجيه الفاعلية الإنسانية عند ذاك المنحنى للتطور الإنساني.
(7) تؤمن الحركة بأن الصراع الاجتماعي، بابعاده السياسية و الاقتصادية و الثقافية، هو أمر دنيوي، يتعلق بمصالح الناس، و تصوراتهم، و أساليب حياتهم، على هذا الكوكب. و لا تحمل الحركة أية نبوءة جديدة حول حل هذه الصراعات بالضربة القاضية في المستقبل القريب أو البعيد.
و ما دامت هذه الصراعات قد برزت مع بروز المجتمع الإنساني نفسه، فأن حلها، أو بالأحرى إدارتها، تتعلق بالمسيرة الإنسانية ككل، و كلما تقدمت الإنسانية و تراكمت منجزات الحضارة، كلما ابتدعت وسائل لحل هذه الصراعات تحفظ ارثها الحضاري و تمثل إضافة إليه. و تكون الحلول ترسيخا لمبدأ الاستمرار أكثر من القطع و المفارقة اللذين ينطويان على احتمالات النكوص الحضاري، بما تراكم لهذه المجتمعات من إمكانيات التدمير. إننا نؤمن هنا بالديمقراطية باعتبارها النظام (الإجرائي) الأكثر رقيا و تحضراً و إنسانية في حل النزاعات، و نعادي بالتالي الحلول القائمة على الديكتاتورية بمختلف مسمياتها.
(8) الحركة باعتبارها أداة من أدوات الصراع الاجتماعي و السياسي، تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية على مستوياتها كلها. فهي منحازة اجتماعيا للفقراء و الكادحين و المستغلين و المقهورين، ولكل المنتجين بأذهانهم و أيديهم، و هي تسعى بكل الوسائل و السبل لتكون أداتهم في نيل ثمرات إنتاجهم و تطوير مقدراتهم و ملكاتهم، و هي تعمل على رفع المظالم السياسية، المتعلقة بافتقار الجماهير إلى القوة و السلطة و امتلاك المصير، و التاريخية، المتعلقة بالتخلف و بدائية وسائل الإنتاج، و انتشار الجهل و الفقر و المرض، و القومية، المتعلقة بالتهميش القومي، و الاضطهاد المستند إلى الانتماء العرقي، و النوعية، المتعلقة باضطهاد النساء لجنسهن، و الطبقية، المتعلقة باستغلال الكادحين و المنتجين، و الأيديولوجية، المتعلقة بتهميش الإنسان و تغييبه أو تصغير شأنه.
و ليس ثمة وصفة سحرية هنا، كما أسلفنا القول، بل هو الجهد الخلاق المتمثل في مواجهة هذه المظالم كل على أرضيته الخاصة في نفس الوقت الذي نواجهها مجتمعة، و في إطار صراع ديمقراطي، و حلول قابلة للمراجعة، و تقدم إنساني مفتوح النهايات.
(9) في المجال الاقتصادي نعتقد أن أكثر النظم استجابة لمقتضيات العدالة هو الاقتصاد  المختلط ، الذي يجمع بين القطاع الخاص،  قطاع الدولة، و القطاع  التعاوني. و ذلك في صيغة تحفز رأس المال الخاص الساعي إلى الربح، بينما تجبره عن طريق التشريع على ضمان شروط خدمة إلزامية للعاملين، أي حقوق أساسية للمنتجين، تحددها لجان عمل مختصة و محايدة، كما تضمن تأديته لواجبه الوطني عن طريق الضرائب، و توجه قطاع الدولة للاستثمار في المجالات التي يكون العائد الاجتماعي و السياسي للاستثمار فيها أكبر من العائد الاقتصادي، و كذلك الاستثمار في البنية التحتية، و إدارة الموارد القومية ذات الطابع الاستراتيجي. و يعبئ القطاع التعاوني، بشقيه الإنتاجي و الخدمي، فوائض المواطنين، ذات الحجم الصغير، و يوظفها في الإنتاج و الاستثمار، ويضمن لهم شروط تبادل عادلة، بتوحيد جهودهم و تنظيمها.
و نبني خيارنا هذا على تجارب الأمم الأخرى، و التي أصبحت فيها اقتصاديات السوق، المنفلتة من كل قيد سوى البحث عن الربح، مستحيلة بعد ج. م. كينز، الذي صاغ  نظرياته حول دولة الرفاهية في أواخر الثلاثينات و طبقت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أصبحت صيغة ملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج مستحيلة بعد ستالين و بعد انهيار (المعسكر) الذي نشأ على أساس تلك الملكية على مشارف العقد الأخير من هذا القرن.
و في مجال الاقتصاد المشترك، و في إطاره، يمكن لشعبنا أن يضيف مساهمته الخاصة، و المستندة على واقعه الماثل، و المجال مفتوح لمساهمات علمائه في الاقتصاد و جماهيره المنظمة.
(10) تؤمن الحركة بأن النهضة الثقافية هي بعد جوهري في النهضة الوطنية الشاملة، و تعمل على توفير الشرط الأساسي لكل إبداع أدبي، أو فني، أو علمي، و هو شرط الحرية. و هي إذ تحتفي بالمبدعين من شعراء  وفنانين و كتاب و موسيقيين و رسامين و غيرهم، فانها تبقي بلا نظرية رسمية في أي من هذه المجالات،و بلا ناطق رسمي في أي واحد منها.
إن دور الحركة، السياسي أساساً، هو السعي بجد لتوفير كل الشروط المادية، و الاقتصادية و التشريعية، التي تقوم عليها النهضة الثقافية و نشر الجمال و الفرح. أما محتواها وتجسيد الجميل و المفرح، فيحدده المبدعون و جمهورهم و نقادهم.
(11) منطلقة من حرصها على الإنسان بكل أبعاده الروحية، تعمل الحركة على النأي بالدين عن المعترك السياسي، و مقاومة استغلاله سياسيا، و ترفض إضفاء طابع مقدس على أي برنامج سياسي، و تعمل على فصل المؤسسات القائمة على الولاء الروحي، و على رأسها الطوائف، عن العمل السياسي، و عن الأحزاب السياسية، و تسعى الحركة عن طريق ذلك لصيانة قدسية الدين و سموه، و خدمة رسالته في إثراء  الوجدان، و نشر القيم الخيرة، وربط النسيج الاجتماعي بإشاعة قيم التكافل و التراحم و البر. و تقف الحركة بالتالي في وجوه المتاجرين به، المتوسلين عن طريقه لخدمة مآربهم الخاصة التي تجبرها طبيعتها الأنانية أو الشريرة على التخفي و التنكر موظفة الدين كقناع جميل.

الأولويات السياسية الصحيحة و التفاني في تنفيذها:  9-
تحديد الحركة للأولويات السياسية الصحيحة، و الفاني في إنجازها، و الوصول إلى نتائج ملموسة يستطيع القاصي و الداني أن يراها لا يقل أهمية بأي حال من الأحوال، عن تعميق و تطوير البرنامج السياسي. بل ربما يكون بالنسبة إلى كثير من جماهير الشعب أكبر أهمية من المهمة الأولى نفسها، لأن الفعل أوقع في نفوسهم من القول. و بالنسبة إلى بلد يتحدث قادتها أكثر مما يفعلون، و يعدون بأكثر مما يوفون، فإن الكلمات غالبا ما تكون أوكاراً للخديعة و المكر، اللذين لا ينكشفان إلا بعد فوات الأوان، إذا كان القول يحمل حقيقته – في أحسن الأحوال- كاحتمال، فإن الفعل يحمل حقيقته في ثناياه، بل لا يعبر عن ذاته إلا كحقيقة.
و قد حددت الحركة في وثيقتها التأسيسية أن إسقاط السلطة عن طريق المواجهة المسلحة هو أولويتها السياسية بلا جدال. و بقدر ما تتمكن الحركة من إعداد العدة للانخراط في ذلك النضال، و بقدر ما تتوجه طاقاتها جميعاً إلى إنجاز هذه المهمة، و بقدر ما تحرز من نجاح، بقدر ما تزدحم أبوابها بالطارقين الذين يريدون أن يضيفوا جهودهم إلى جهود القائمين على هذه الحركة التي تطرح الأسئلة الصحيحة و تقدم لها الإجابات الصائبة.
و لا شلك أن مسألة النضال المسلح تطرح أسئلة كثيرة، و تحتاج إلى مقال مستقل يعالج جوانبها المتعددة. و لا نريد هنا أن نزيد على القول أن ممارسة هذا النضال، وفق رؤية سليمة و تفادي محاذيره الكثيرة و إخطاره الجمة، سيساهم مساهمة حاسمة في نمو الحركة و اتساعها.

10- الانتقال من الشتات إلى الوطن:
أسلفنا القول إلى أن الحركة بدأت نشأتها في بلدان المهجر و الشتات، و أن ذلك سيترك بصماته عليها لبعض الوقت. بل إن أعداء الجديد  قد تشبثوا بهذه الواقعة ليبرهنوا أن الحركة قد ولدت ميتة، و قد أوضح كتاب كثيرون ينتمون إلى الحركة، أن الدعوى المشار إليها منافقه و متناقضة مع تاريخ الأحزاب التي ينتمي إليها القائلون بالفرية العرجاء، فأغلب الأحزاب السودانية قد نشأت بدءً في الخارج  ثم انتقلت إلى الداخل فيما بعد و لا يعيب حزباً من الأحزاب أنه نشأ بداية خارج وطنه، فالانتماء الوطني ليس انتماءً جغرافيا، و قليلون هم الذين يخلعون ولاءهم الوطني عند عبور الحدود! و لكن يجب الاعتراف بما ينطوي عليه ذلك القول من حقيقة، فللغربة منطقها الخاص و للشتات منطقه، و إذا لم تنجح التنظيمات السياسية في مهمة الانتقال العسير إلى الداخل فإنها تكون فعلا قد حكمت على نفسها بالموت، و لذلك فان الانتقال إلى الداخل  يمثل محورا أساسياً من محاور نمو الحركة و اتساعها. بناء قواعد الحركة في الداخل يضع كثيراً من الأشياء في حجمها الطبيعي، فتنظيمات الخارج سيتحول دورها تدريجيا إلى دور مساعد، و الأجندة النضالية للحركة ستوضع بالتشاور الواسع بين الداخل و الخارج، و ستكتسب بعدها العملي المباشر، وبدلا من سلبيات المجموعات اللاجئة، و ما يعتريها في بعض الأحيان من الخواء، والدوران في الحلقات المفرغة، و الجنوح إلى المواقف التأملية المجردة، بل و ما يلونها من الصراعات الشخصية و المرارات، ستضع الحركة يدها على نبع الحياة المّوار، تنطلق معه، و سينسى الناس أنفسهم و هم يتعرضون كل يوم لواجبات و مهام و تحديات تكبر باستمرار، وسيكبرون و هم يتصدون لها.
بناء  الحركة بالداخل، و غرس نبتتها في الطينة البكر الخصيبة، و تعهدها بالري والحماية،  و الذود عنها بما جبل عليه الإنسان من العناد البطولي، من الصمود في وجه العواصف، من النبل الذي لا يتردد في التضحية بالذات في سبيل ما هو أكبر منها و أبقى، هذه هي المهمة التي تواجهها الحركة الآن، و لا خيار أمامها سوى النجاح.
و الداخل بالنسبة للحركة ليس جغرافيا فحسب، بل سياسي و جغرافي في نفس الوقت، و لذلك فالحركة تبني قواعدها في الداخل عندما تكون مجموعاتها على حدود السودان، و تبني في الداخل عندما تجوّد رسالتها  الإعلامية و الدعائية،  و تبني في الداخل عندما تجمع المال من أعضائها و أصدقائها لتمويل نشاطها. و لكنها قبل كل ذلك و بعده، تغرس رجليها عميقا في طين الوطن الأم، و تصل إلى إنسانه الواضح البسيط في كل بقعة هناك و هذا ينقلنا إلى المهمة التالية.

11- من أسر الصفوية الى رحابة الوجود الشعبي الجماهيري:
تترافق مع بناء الحركة في الداخل، مهمة لا تقل عنها أهمية، و هي الانتقال من الصفوية إلى الشعبية، و من مواقع الفئات المثقفة و المتعلمة، إلى صفوف الشعب بكل طبقاته و فئاته و ثقافاته و أعراقه، و من المدينة إلى الريف بالتالي.  و على هذا المستوى تخاض معركة الحركة الحقيقية التي تحدد مستقبلها في المسرح السياسي السوداني، خلال السنوات القادمة.
فما دامت الحركة حركة ديمقراطية فإنها لا تفكر مطلقا في الانفراد بالسلطة عن طريق القوة، و لا تلجأ للعمل العسكري إلا في حدود إسقاط السلطة الحالية و هزيمة هجومها المضاد، و لا تفعل ذلك إلا بالاشتراك مع الآخرين، و الاعتراف بهم مسلحين و غير مسلحين، و الإيمان بحقهم جميعاً في الاشتراك في السلطة الانتقالية القادمة.
و ما دامت الحركة لا تجد عزائها في ثنايا الغيب التاريخي الذي من المفترض أن يقدم لها رخصة قيادة المجتمع على صحن من ذهب، و ما دامت لا ترى سبيلاً إلى تنفيذ برنامجها غير سبيل الديمقراطية و الانتخابات العامة، فإن عيها أن تشرع منذ الآن في كسب قلوب و عقول الأغلبية الشعبية، أو الحصول على أعلى نسبة من التأييد الشعبي تؤهلها للاشتراك في الحكم، أو التأثير من مواقع المعارضين و عليها كذلك، أن تتمكن بما تتسم به من تأدية  الأمانة، و اتخاذ المواقف الصحيحة، و الاستجابة للحاجات بأوسع معاني الكلمة، أن تحافظ على التأييد الذي تحصل عليه و تنميه باطراد، واعية على الدوام بأنه تأييد مشروط و محدود.
الحركة لا تحلم –إذن- بإقصاء القوى التقليدية بدعوى انتصار الحداثة أو عن طريق الانقلابات و الإبتزازات العسكرية. إنها تنازل هذه الأحزاب و القوى على أرضيتها ذاتها و تعمل على هزيمتها بشرف و لكي تنجح في هذه المهمة فإن عليها أن تتحدث بلغة الشعب و تنطق بلسانه، و تأكل معه و تشرب، بل تجوع معه و تعطش و تحس نبضه العميق، و تختلط دماؤها بدمائه، هكذا تتجذر الحركة و تتشجر، و هكذا تكتسب الأرض خصائصها الروحية، التي تجعل المرء يدافع عنها كما يدافع عن جسده و أطرافه إذ تسيل فيها الدماء و يدفن فيها الشهداء.

12- قوة الجذب الديمقراطي:
أحد المبررات الجوهرية في بروز الحركة هو النضال ضد الدكتاتورية، كمنهج في الحكم، و في الأداء السياسي، و كأسلوب في الحياة. و قد زعمت الحركة أن الجبهة الإسلامية تمثل الدكتاتورية في أكثر صورها تطرفا و بشاعة، و لكنها لا تنفرد بها و لا تحتكرها فالديمقراطية غائبة لدي أحزابنا الطائفية و العقائدية فيما يتعلق ببنائها الداخلي.
صحيح أن هذه الأحزاب تقبل الديمقراطية كوسيلة للوصول إلى الحكم، و تتصالح معها ما دامت تحملها بالفعل إلى سدته. و لكنها كانت تدخر على الدوام خيار التنكر لها و الانقلاب عليها في اللحظة التي تتحول إلى وسيلة لإزاحتها عن الحكم و إعطائه  لآخرين. و نعتقد أن الإمكانية المفتوحة في إسقاط الحكومة، و حجب الثقة عنها، و تسليم الحكم لآخرين هو جوهر الديمقراطية السياسية، و هو ما عرف بالتداول السلمي – الديمقراطي- للسلطة. و نعتقد أن إمكانية الانقلاب على الديمقراطية موجودة كخطر حقيقي في أحزابنا نتيجة تعامل قادتها مع الديمقراطية كوسيلة فحسب، و أنهم يقفون على أهبة الاستعداد ليقلبوا لها ظهر المجن عندما تعبس في وجوههم و تبتسم لخصومهم. و هم في ذلك كعاشق غيور يصاب بالهوس و الجنون عندما يفكر أن عاشقا آخر يحتل مكانته من قلب معشوقته أو جسدها. و ليس صدفة أن بعض السياسيين يتحدثون عن الديمقراطية، و عن الحكم، و عن السلطة في الواقع، بلغة العشق و الخطوبة و الزواج!.
معاملة الديمقراطية كوسيلة فحسب، تعني أن الذين يفوزون في الانتخابات لن يتوفروا على الوفاء بعهودهم الانتخابية! بل يوجهون جهودهم كلها إلى جني ثمار السلطة لهم و لأبنائهم و محاسيبهم و أتباعهم، كما تعني أن الذين فشلوا في الفوز سينصرف همهم إلى البحث عن وسيلة أخرى توصلهم إلى الحكم، غالبا ما تكون هي الانقلاب العسكري. و هذه الظاهرة تعد من أبرز الظواهر في حياتنا السياسية طوال أربعين عاماً.
و لن نتخطى هذه المرحلة الخطرة، المليئة بكثير من المكر و النفاق، إلا بإكمال النصف (المر) من انتمائنا الديمقراطي، و هو التصالح مع إمكانية الرفض و الصد و الفشل، باعتبارها الوجه الآخر للعملة، في العملية الديمقراطية. و هذا يعني أن نقبل الديمقراطية كغاية و أسلوب حياة. و لن يتأتى ذلك لأي حزب من الأحزاب إلا أن تصبح الديمقراطية جزءُ لا يتجزأ من نسيجه الداخلي، الفكري و السياسي و التنظيمي. و ربما نكون قد أوضحنا أن هذا لن يتأتى لحزب طالما ظل بناؤه الداخلي طائفيا أو عقائديا شموليا.
و إن علينا عن طريق التحليل و التأمل أن نوضح هذا التناقض الفاقئ للعيون: الدعوة لسيادة الديمقراطية في المجتمع ككل، و حجبها عن أعضاء الحزب! العمل على استرجاع الديمقراطية و ترسيخها و ازدهارها، بوساطة حزب لا يتمتع بها هو نفسه، و لا يجود بها على أقرب المقربين إليه! الزعم بإشباع أطفال الجيران، و أطفال البيت يتضورون جوعاً! و التفسير في نظرنا هو أن قيادات الأحزاب الحالية، هي قيادات أصبحت كلها تاريخية و ظل أغلبها في مواقعه لثلاثين عاما – تستطيع على النطاق الحزبي أن تفرض قيادتها عن طريق الطائفية و المركزية،و لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك على النطاق الوطني. و ما دام المقصود في الحالتين هو فرض القيادة و تأمينها و حمايتها، و ما دام ذلك يستدعي استخدام كل الوسائل الممكنة، فإن هذه القيادات لا تتردد في استخدام وسائل متناقضة للوصول إلى نفس الهدف: و قد قالت الحكمة الشعبية: إذا عرف السبب بطل العجب!
و ستظل الديمقراطية مهددة بأكثر من طعنة من الخلف، و سيظل البناء الديمقراطي هشاً و مخلخلاً، بل و ستذروه الرياح في نهاية المطاف، إذا لم تتحول إلى عصب حي يربط الجسم الاجتماعي ككل. و إذا كان الاقتصاد هو قلب المجتمع، و السياسة رأسه، فالديمقراطية ضرورية لكليهما ضرورة الدم و الأكسجين.
و على هذا المستوى من الأهمية نضع ضرورة الإصلاح الحزبي، لتمكين الديمقراطية. و يترافق الإصلاح الحزبي في نظرنا مع عوامل أخرى لا ينتظر تحقيقه في غيابها. يأتي على رأسها سيادة منهج جديد للحكم يستبعد مفهوم الغنيمة، و يتعامل مع السلطة كموقع لخدمة المجتمع، أي موقع للعطاء و ليس للأخذ. و أن يبرز إلى السطح مرشحون للحكم يعطون الجزاء المعنوي قيمة أكبر من الجزاء المادي، بحيث يعطيهم حبه و تقديره دون أن يفقد لقمة عيشه، فالقيم المعنوية تزداد بالعطاء و لا تنقص على عكس القيم المادية،و نحن لا نقول أن على الحكام أن يجدوا قوتهم في حب الشعب، فحاشانا أن نقع في هذا الفخ المؤدي مباشرة إلى الدكتاتورية و الطغيان، إننا نقول فقط أن على الحكام أن يكتفوا بإمتيازات وظائفهم كحكام، و هي كثيرة، و لا يفكروا للحظة أن موارد البلاد أصبحت كلها ملكا لهم فقط لأهم صعدوا فقط إلى سدة الحكم.
إذا ساد هذا المفهوم للحكم، فهذا يعني أن المعارضة لن تشعر (بالحرمان) من اقتسام الغنيمة، فليس ثمة غنيمة أصلاً. بل ستشعر أن موقع المعارضة نفسه هو موقع لخدمة المجتمع، بتقويم السلطة ونقدها، و التعاون معها في كثير من أوجه النشاط، و تحديها في الوقت المناسب، و سيكون هدف المنافسة نيل نصيب أكبر من الاحترام و التقدير الشعبي، أي نصيب أكبر من اقتسام القيم المعنوية، و هذا يخرج من المتنافسين جميعاً  أفضل ما فيهم، و نحن نعترف بالطبع أن السياسة تتعلق في نهاية المطاف باقتسام القيم المادية و خدمة المصالح المادية، و لكننا نعرف كذلك أن هذا يجب أن يتم بمقتضى العدالة ووفق موازينها و لن يتحقق ذلك إلا بسيادة قيم أخلاقية في التي نتحدث عنها الآن، ليس كبديل للقيم المادية بل كضابط لها.
و لنتحدث لغة أقل تهويما و أكثر واقعية، نقول أن المعارضة يجب أن تتوفر لها حقوق واسعة، وأن تحظى بمكانها و مكانتها، بحيث تشعر أن لها مصلحة حقيقية في بقاء النظام الديمقراطي. كما يجب أن تتوفر للسياسيين أنفسهم خيارات يلجأون إليها حينما يفقدون ثقة الناس.
إعطاء الحركة لمفهوم الديمقراطية هذا البعد الجوهري و التأسيسي يفرض عليها أن تبذل قصارى الجهد و الطاقة لتصبح هي مثالاً لذلك، و أن يشتمل بناؤها الداخلي على قدر من الجاذبية الديمقراطية التي تجعل قلوب الناس تميل إليها، و هذا ينبغي أن يجد التعبير الصريح عنه في لوائحها الداخلية، و أدائها السياسي، بحيث تمارس الصلاحيات كلها وفق تفويض صريح، و بحيث يشارك في النشاط كل أعضاء الحركة، ما أمكن ذلك. و بحيث تكون القيادة وقفا على فترة زمنية محددة، و بحيث يعتمد مبدأ التجديد القيادي بصورة واضحة، و أن تكون هناك لائحة خاصة للأوضاع  الطارئة تجاز في المؤتمرات.. إلى غير ذلك من المبادئ الديمقراطية التي يجب أن تسبح وعيا عاما لدي أعضاء الحركة.
و لأن الديمقراطية، مثلها مثل كل المفاهيم الأخرى، عرضةً للخلط و التشويش، و للصراع و الاختلاف، فإن من المهم أن نسعى بوعي، و باستمرار إلى توحيد رؤانا حولها ما أمكن ذلك.
فثمة من يزهو بأن تنظيمه بلا قيادة، و أن كل عضو من أعضائه يمكن أن يدخل أي اجتماع من اجتماعاته دون استئذان و يشارك في المناقشة على قدم المساواة مع كل الآخرين، و أن من حق أي عضو أن يمارس أي نشاط باسم التنظيم بدعوى شرعية المبادرة. مثل هذا التصور لا علاقة له بالديمقراطية التنظيمية، بل يعبر عن الحرية الشخصية غير المقيدة بانتماء تنظيمي أو سياسي بعينه. و الميوعة المعلنة في العلاقات التنظيمية غالبا ما تخفي ورائها سيطرة خفية لا تريد أن تعلن عن ذاتها، بل تمارس سيطرتها هذه دون تفويض من احد، عندما نتحدث عن الديمقراطية الداخلية فغنما نتحدث عن التفويض الواضح، المبنى على القدرة و الكفاءة، و عن التخصص في الأداء السياسي، و عن الشفافية و المسئولية، المحكومتين بالقواعد و ا للوائح، و عن العلاقات بين القاعدة و القيادة التي لا تقوم بطبيعتها على مبدأ المساواة، بل على مبدأ الحقوق و الواجبات، فمن الحقائق التي لا مراء فيها أن أفراد التنظيم يتفاوتون: من حيث القدرة و الكفاءة، من حيث الاستعداد للانشغال السياسي. من حيث الإيمان بأهداف التنظيم، و من زاوية ظروف فردية و إنسانية و اجتماعية بلا حصر. و البناء السياسي السليم ليس هو ذاك الذي يلجم المقدرات، و يرفض التميز و التفوق و الفوت، و يضع الناس جميعا في سرير بوركرستا بدعوى المساواة، بل هو ذاك التنظيم المفتوح النهايات و الذي لا يسمح قط لأفراده التفوق على الآخرين و على ذواتهم، و يفجر أفضل ما فيهم، بل يشجعهم على ذلك و يعترف لهم بأفضالهم و يكافئهم عليها.
و عندما تضع الحرب مع الجبهة الإسلامية أوزارها، و عندما تحرث الأرض لشجرة الديمقراطية القادمة، فإن الجاذبية الديمقراطية للتنظيمات المختلفة ستكون هي المعيار في تحديد مصائره، و إن بعض التنظيمات و إن كثرت حرابها، ستفاجأ بأن الجاذبية الديمقراطية هي جواز المرور إلى قلوب السودانيين و يجب أن تعمل الحركة بكل ما لديها من طاقة كي لا تحدث لها هذه المفاجأة، و هي مهمة صعبة في ضوء الخيارات التي وضعتها الحركة لنفسها في كيفية مواجهة السلطة هذه الخيارات التي تغلب اتجاهات الحسم العسكري والإداري و تقليص الديمقراطية إلى أقصى حد، بل اغتيالها في بعض الحالات. هذا إذن موضوع صراعي، لا يمكن السلامة من مخاطره المهلكة إلا بالوعي الكامل بها، و محاربتها في الذات، و في الآخرين، و بالنسبة للحركة ككل فإن هذا هو بالضبط ((الجهاد الأكبر)).

13- على الحركة أن تتحلى بأفضل خصائص القوى التي تتجه إليها و تستقطبها:
لقد ساد لبعض الوقت مفهوم للتنظيم الحزبي يتعامل معه كمعطى ثابت، يؤخذ، أو يترك، كما هو. و على الوافد الجديد أن يخضع لإعادة صياغة جذرية حتى يتلاءم مع مقتضيات الانتماء الجيد، و إن الكثيرين يفقدون ذواتهم خلال عملية الخلق الثاني هذه، و التي تتحول في هذه الحالة إلى عملية اغتيال، و بالطبع فإن قرارا الانضمام إلى تنظيم من التنظيمات ليس قرارا عادياً، و هو يعني الكثير جداً لصاحب القرار، و يحدد مساره، و ربما يعيد صياغة شخصيته. هذه حقائق لا يمكن إنكارها، و لكن إذا كنا نريد لإعادة الصياغة هذه  ألا تتحول إلى عملية اغتيال، فإن التنظيم يجب أن مستعداً لإعادة صياغة خاصة به هو كتنظيم ليتلاءم مع  ميول و استعدادات و شخصيات الوافدين إليه بقدر ما يسعى إلى إعادة صياغتهم، و حصيلة هذه العملية ستكون دائماً هي أن يصبح التنظيم بيتا مريحاً تنمو فيه المواهب و المقدرات، و تغتني الشخصيات، بدلاً من أن يتحول إلى سجن لقاصديه. إن زمن عبادة الأصنام التنظيمية يجب أن ينتهي، و أن تحل محله نظرة ترى التنظيم مخلوقاً للناس، و ليس العكس.
و لنكون أكثر تحديدا فإن حركة تتجه إلى الشباب، يجب أن تكون حركة شابة، و أن حركة تتجه إلى النساء يجب أن تتمتع بخصائص نسائية بارزة، و حركة تحترم التعددية يجب أن تتمتع بقدر وافر من التسامح و الليبرالية و اتساع الأفق، و حركة تتجه إلى المثقفين يجب أن تكون مثقفة.. و هكذا. و الصور المحددة التي تتخذها شبابية الحركة أو نسائيتها أو جماهيريتها أو تسامحها أو ثقافتها، تشارك هذه الفئات نفسها في تحديدها، و ربما تفرض ذلك على قيادات الحركة من خلال الصراع الديمقراطي. ونحن نكتفي بأن نذكر هذه الفئات بأن من حقها أن ترى ذاتها و أن تجدها داخل الحركة.

14- علاقة الحركة بالقوى السياسية الأخرى ومكانتها في الساحة السياسية:
تنمو الحركة في وسط يعج بالأحزاب و الحركات السياسية، و من هذه الأحزاب و الحركات من يحفظ لها الود، و منها من يكن لها العداوة، و منها من يعاديها باعتدال و في حدود الصراع الديمقراطي، و منها من يشتط في عداوته ويريد أن يفتك بها، و يبطش بها بطشاً، و منها من يريد أن يستغلها في صراعاته الخاصة مع آخرين و مهما بحثنا في اتجاهات القوى السياسية نحو الحركة، فإننا لن نجد الإهمال كواحد من هذه الاتجاهات، مما يعني أنها حركة ذات شأن، و لتبرهن هذه الحقيقة فإنها لا يمكن أن تكتفي بقاعدة ((نصادق من يصادقنا و نعادي من يعادينا))، إذ أنها في هذه الحالة تكتفي بأن تكون (( الصدي)) و ليس (( الطائر المحكي)).

                                             أجزني إذا أنشدت شعرا فإنني
                                                                         أنا الطائر المغني و الآخر الصدى

هكذا كان يتحدث ذاك الشاعر ذو الشأن أبو الطيب. الحركة تطمح أن تساهم باقتدار في إرساء وعي ديمقراطي عميق، إذا كانت توافق أبا الطيب في الحرص على تفردها، فإنها تخالفه في أنها لا تريد أن تحول الآخرين على صدى، بل تريد أن تسمع تغريدهم جميعا، فهي ترفض للآخرين ما ترفضه لنفسها.
القاعدة الأساسية التي تحدد علاقة الحركة بالقوى السياسية الأخرى هي قبول الآخر، وجوداً و نشاطاً، رأياً و رؤية، مخالفة أو موافقة، طالما التزم هذا الآخر بهذه المبادئ ذاتها، و ضمن هذا الإطار تحتفظ الحركة لنفسها بحق النقد لبرامج و مواقف و مفاهيم الآخرين، طالما رأت فيها خطأ أو خطلاً أو خطراً، و هي تفعل ذلك بموضوعية و علمية و إنصاف، و بعيداً عن الاسفاف أو التشهير أو الفجور أو التآمر، و تلتزم بألا تصمت عن الإيجابيات و هي تعري السلبيات، و في نفس الوقت الذي تمارس فيه هذا الحق فإنها تدعو الآخرين لممارسته إزاءها، و تشجعهم على ذلك. و قد فعلت الحركة هذا الشيء عندما طرحت وثائقها على الناس.
إننا نلمح في الساحة السياسية ضيقا بالنقد يجنح به إلى موقع العداوة، و نعتقد أن التنظيم الذي يحاول أن يحمي ضعفه بالاستجابات الغاضبة على النقد الذي يوجه إليه يدفع الثمن فادحا إذ تخف أوزانه كثيراً في ميزان الجاذبية الديمقراطية، كما أنه إذ يتقنفذ حول أخطائه و نقائصه إنما يضعف ذاته دون أن يضير الآخرين.
قاعدة القبول بالآخر، رأياً و تنظيماً و أفراداً، هي قاعدة عامة بالنسبة للنطاق السياسي ككل، و على مستوى أكثر خصوصية فإن الحركة تسعى إلى إقامة التحالفات و أشكال التعاون و التنسيق، التي تزداد قوة  و ضعفاً وفق وحدة البرامج و الرؤى، و من الطبيعي أن تعطي أولوية، و تبذل جهداً أكبر مع القوى الأقرب إليها، لأن الاتفاق معها أسهل، و مداه أكبر و أعمق. و من هذا المنطلق نفسه حددت الحركة قوى بعينها باعتبارها قوى النهضة الوطنية الشاملة و السودان الجديد، و تسعى للوصول معها إلى اتفاقات ذات طابع عملي. و بمقدار ما تنجح في مسعاها ذاك، بمقدار ما تقترب من إنجاز أهدافها، و لا شك أن هناك مصاعب و عقبات في الطريق، و لكن الجهد المثابر، و الصبر، و تبديد الشكوك، كفيل بهزيمتها، و نعتقد أن هذا محور هام من محاور نمو الحركة، يوطد مكانتها في الساحة السياسية.

15-علاقات الحركة الإقليمية و الدولية:
أوضحنا في ورقتنا حول السياسة الخارجية أن العلاقات الإقليمية و الدولية، بأبعادها الاقتصادية و السياسية والاجتماعية، ضرورية تماما لتطور السودان ونهضته الشاملة. و لا نريد أن نزيد شيئا هنا إلى ما أسهبنا في تفصيله هناك، طرحنا هنا يختلق فقط من حيث زاوية النظر، إذ لا يتعلق الأمر هنا بالسودان عموماً بل بالحركة خاصةً.
إن علاقات الحركة، الإقليمية والدولية، مرتبطة في نفس الوقت بالمهام الآنية التي تطرحها على نفسها، و بالأهداف الاستراتيجية البعيدة التي تسعى إلى تحقيقها، و هي تنطلق من حقيقة أن البعد الإقليمي و الدولي أصبح عاملاً هاماً في كل نشاط سياسي مهما بدا محلياً، و يرجع ذلك إلى عدة عوامل منها ترابط العالم و صيرورته قرية واحدة،  و منها سيادة مفاهيم في التنمية و السياسة تتخطي حدود الدولة القومية لتفكر في المجموعات و الكتل و المصالح المشتركة التي تجمعها، و منها بروز قضايا لا يمكن مواجهتها و حلها إلا بتضافر الجهود الإقليمية و الدولية. وحركتنا، و هي بنت لعصرها، يجب أن تكون ذات دور رائد في هذا المجال أيضاً.
لقد رضعت الأصولية الحاكمة في الخرطوم، السودان في عين العاصفة، و في مواجهة العالم.و ذلك لرعايتها للإرهاب، و خرقها لحقوق الإنسان، و إشعالها لحرب أهلية لا تبقى و لا تذر ، و إنشائها لدولة و جماعة، كارهة للبشر و مفتتة للجماعات، و إعادتها لظواهر انقرضت في السودان مثل الرق و الاستعباد و التطهير العرقي وتسعيرها لنعرات الهوس الديني و التعصب و الانغلاق. و قد صار السودان بالفعل على كل لسان باعتباره أذى يجب أماطته عن طريق الحضارة، و إذا كان منظَره الشيخ،  الذي صارت تنطق عنه لوثته، يزهو بأن العالم صار مشغولاً به، فهو زهو الكلب المسعور الذي يركبه الشعور بالعظمة لأن القرية خرجت كلها تطارده، ناسيا في غمرة الهوس أن المطاردة لن تنتهي إلا بقتله!
 و عندما تضع الحركة في صدر أولوياتها محاربة هذا النظام و إسقاطه، ومحاربة الإرهاب الدولي و الإقليمي  و القضاء على أهم قاعدة من قواعده، فإنما ترشح نفسها لعلاقات وطيدة  مع كل جيران السودان الذين ذاقوا الأمرين من مغامراته و مؤامراته و غدره، كما ترشح نفسها أيضا لعلاقات قوية مع كل القوى العالمية التي جعلت محاربة الإرهاب بنداً أساسيا من بنود سياستها الخارجية.
و ليس خافيا على أحد أن هذه المهام المشار إليها ذات متطلبات عالية: أرضاً و مالاً و عدة و عتاداً. و في وقت الحاجة و الضيق، الماثل أمامنا، تعرف الحركة أصدقاؤها و أشقاءها الحقيقيين و تقيم معهم العلاقات الاستراتيجية التي لا تنتهي بانتهاء النظام الحاكم، بل تزدهر في الحقيقة بعد زواله. و هذا يستدعي الوضوح الكامل حول أن الأمر لا يتعلق بالعواطف و الرومانسيات، بل يتعلق بالمصالح المشتركة، و الأهداف المشتركة، و على الحركة أن يكون لديها ما تقدمه في هذا الخصوص.
و نعتقد أن أعضاء حركتنا جميعاً على درجة من الإلمام بكيفيات التعامل مع الدول، بحيث يحترمون احتراماً كاملاً الصيغ المنظمة لهذه العلاقات، و التي تحددها الدول المختلفة حسب تقاليدها و رؤاها، و إن كانت تشترك جميعا في خصائص معينة تعرفها جميع الحركات و الأحزاب المعارضة في كل أرجاء المعمورة. و إن حركتنا لتتعرض لابتزاز رخيص و منافق، و خاصة من أولئك الذين حولوا العلاقات الدولية و الإقليمية إلى تجارة شخصية رابحة، و الذين وجدوا في تكالبهم ذاك أن بقرة المعارضة أغزر دراً من بقرة السلطة. أما العجزة من ذوي الوعي الخشبي، و من عبدة الشموس الغاربة، فإننا لا نعيرهم التفاتاً! المهم أننا في علاقاتنا الدولية و الإقليمية نحول كل عون إلى خدمة القضية، بحيث يرى ذلك القاصي و الداني، و نقبل كل عون. بما يستحق من الشكر و الامتنان، دون أن يعني ذلك تراجعا بأية درجة عن أهدافنا المعلنة، و دون تفريط في استقلالنا الذاتي. و على هذا الدرب سنسير غير عابئين بخيوط العنكبوت التي تصادفنا في الطريق.

خاتمة
هذا ما عنّ لنا تسطيره حول هذه القضايا نبرر به هذا الجهد المضني، المتمثل في بناء حركة جديدة، ونرد به على المزاعم بأن الحركة قد نشأت كقميص مفصل على هذا الشخص أو ذاك، أو كحصان خشبي، أو فولاذي، لمطامع أو طموحات، لهذه الفئة أو تلك. كما وجهنا الجزء الثاني منه لتوضيح التحديات، و رسم معالم النمو و الارتقاء، و تحديد محاور تحول الحركة الجديدة إلى قوة سياسية ذات شأن.
ولا نعتقد أننا في ذلك أتينا بالحكمة المطلقة، و التي ما على الآخرين إلا حفظها و استذكارها وتلحينها و نشرها في الأقطار. كما لا نعتقد أننا راكمنا سطراً فوق سطر، عويشاً كلامياً يحجب الرؤية، أو أرسلنا هراءً محضاً تقفز العين عيه قفزاً، و تتخطاه إلى ما سواه. أنه جهد فكري له قيمته، و لكن هذه القيمة، كبرت أو صغرت، لا تتحدد إلا بالاستجابة الفكرية المماثلة، الفاحصة، الناقدة و العميقة. و هذا ما ندعو إليه الناس، لأنه الطريق الوحيد لردم الجب السوداني الذي تسقط فيه أفكار كثيرة و لا تجد لها مخرجاً!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق